الاحتراب الداخلي العربي: عين الحلوة نموذجا

عبيدلي العبيدلي

بين الشك واليقين، تابعتُ ما تناقلته وسائل الإعلام حول توقيع "نحو 80 ألف شخص على استمارة ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، لاعتقاله، أثناء زيارته لندن الشهر المقبل، بتهمة ارتكابه جرائم حرب. وأطلق المواطن البريطاني داميان موران العريضة، الشهر الحالي، ونشرها على موقع الحكومة على الإنترنت، بحسب إذاعة مونتكارلو الدولية. وقال موران إنه بموجب القانون الدولي يجب اعتقاله (نتانياهو) وقت وصوله إلى المملكة المتحدة بتهمة ارتكاب جرائم حرب في المجزرة التي قتل فيها ألفا شخص في 2014، في إشارة إلى الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة العام الماضي واستمرت 51 يوما".

لم تكن لديَّ أوهام حول الحيز الذي ستشغله هذه الدعوة النابعة من قلب أجنبي في موازين الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. لكنَّ ذلك لم يمنع من أن تجتاحني موجة عارمة من الفرح لقناعتي بأن قطع طريق تحرير فلسطين لا بد وأن يبدأ بتضافر مجموعة من الخطوات القصيرة، حتى وإن بدت بطيئة، ناهيك عن قدرة التراكمات الكمية، مهما بلغت من الصغر، ومهما كانت ضئيلة، على إحداث التحول النوعي المطلوب، وهو هنا إرجاع الحق الفلسطيني لأهله.

لكن فرحتي لم تستمر طويلا، فقد وأدها وهي لا تزال في المهد خبر آخر، تناقلته أيضا وسائل الإعلام ذاتها يقول: "قتل عنصر من حركة "فتح" الفلسطينية وأصيب 3 آخرون بجروح، وفق حصيلة أولية، إثر تجدد الاشتباكات في مخيم عين الحلوة جنوب لبنان الإثنين 24 أغسطس، مضيفا بأنَّ الاشتباكات اشتدت بين "فتح" وجماعة ما يسمى بـ"جند الشام" في مخيم عين الحلوة، الذي شهد نزوحا كثيفا للعائلات، فيما بقيت عائلات أخرى محاصرة داخل المخيم وفي المناطق المحيطة به والتي ناشدت بفك الحصار عنها".

ليس هناك ما يستدعي سرد قائمة تضم الآلاف من حوادث الاقتتال الفلسطيني التي تندلع في لحظات حرجة كتلك الدعوة لإلقاء القبض على مجرم حرب مثل نتنياهو، والتي تؤدي -شاء من يقف وراءها أن يعترف بذنبه الذي اقترفه بحق القضية الفلسطينية أم أبى- إلى حرف الأنظار قبل الجهود من ساحة صدام ضد العدو الصهيوني، كي تتركز على احتراب داخلي فلسطيني. فتتراجع تلك المكاسب الإيجابية عن مواقعها التي تستأثر بها كي تحتلها خسائر أخرى سلبية.

ما أسوأ من ذلك، هو أنَّ مثل تلك الصراعات التي تصل إلى حد الصدامات المسلحة، وتتحول إلى اقتتال داخلي واسع النطاق ليست ظاهرة فلسطينية استثنائية نادرة، بل حالة عربية شبه متكررة. ولو أحصيت الحروب الداخلية العربية مقابل تلك التي خاضها العرب ضد العدو الخارجي، لفاقت الأولى الثاني على المستويين الكمي والكيفي.

ولتوضيح الصورة أكثر، نكتفي بالحروب الثنائية التي اندلعت بين سوريا والعراق خلال خضوع الدولتين لحكم حزب قومي عربي واحد هو "حزب البعث العربي الاشتراكي"، الذي لم يكف، ولا يزال يرفع صوته مناديا بضرورة تحقيق وحدة الأمة العربية، لوجدناها هي الأخرى تفوق أي صدام بين سوريا وإسرائيل، أو بين العراق وإيران، خلال حكم الشاه.

ولا يختلف المغرب العربي عن مشرقه، إذ لا تزال دماء معارك ليبيا والجزائر من جهة، وليبيا ومصر من جهة ثانية، ساخنة، وتشهد على صحة ما نذهب إليه بشأن استمرار الاحتراب العربي-العربي غير المبرر، الذي لا يهد الجهود والأموال فحسب، بل يحرف مجرى الصراع من أجل مواجهة العدو الخارجي، ويحول دون الالتفات نحو معالجة المشكلات الداخلية المتفاقمة وفي المقدمة منها: الجهل والمرض والفاقة.

وليس هناك ما هو أسهل من الاستنجاد بنظرية "المؤامرة"، ومزج مسوغاتها بأطماع "العدو الخارجي"، من أجل إراحة النفس والبال، من أية محاولة للبحث عن الأسباب الذاتية، أو المساعي الجادة لوضع حد للتناحر الداخلي.

لكنَّ حقيقة الأمر، وواقع الحال، يؤكدان أنَّ السبب داخلي، مهما بلغ حضور العوامل الخارجية، واتسع نطاق فعلها في أي من معارك الاحتراب الداخلي العربية.

واليوم.. لو استعرضنا مسلسل المعارك الداخلية التي خاضها العرب ضد بعضهم البعض، ولا تزال نيرانها مشتعلة في دول يفترض فيها أن تكون متحضرة، بالمعنى الإنساني/المجتمعي لمفهوم التحضر، على امتداد السنوات الخمس الأخيرة من تاريخ العرب المعاصر، فسوفنكتشف -وهو أمر يحز في القلب- أن كلفتها الحقيقية -على المستويات الاقتصادية، والسياسية، وما هو أسوأ من ذلك الاجتماعية- يفوق أضعاف ما رصد لقضايا قومية مصيرية مثل القضية الفلسطينية، أو لأخرى أقل شأنا منها مثل تحرير الجزر الإماراتية.

رُبما تدعونا بعض الدروس المستقاة من ذلك الاحتراب إلى التريث، وإعادة التفكير في الكثير من تلك المسلمات التي اكتظت بها أدبيات الأحزاب العربية التي قادت العمل السياسي خلال سنوات النصف القرن المنصرم، والتي حتى نجاحها في دحر الاستعمار وإخراج الأجنبي، كان محدودا، وربما صوريا في بعض جوانبه.

فحتى يومنا هذا، لا نزال نلمس حضور الاستعمار الغربي المموه في العديد من البلدان العربية التي يفترض أن تكون قد تخلصت من براثنه. والحديث هنا لا يتوقف عند فئة ضئيلة من البلدان العربية الصغيرة حديثة العهد بالاستقلال، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، وأشد عمقا، كي يشمل دولا عربية كبيرة من مستوى مصر والجزائر والعراق.

في كل مرة يندلع فيها الاقتتال العربي-العربي، نتوهَّم أنَّه سيكون هذا هو الأخير قبل أن يصل العرب إلى نهاية مطاف حروبهم الداخلية. لكن ما جرى اليوم في عين الحلوة هو بمثابة درس جديد يضاف إلى دروس عربية أخرى في ذات الاتجاه، يحذرنا من أننا ودون أن يكون مصدر ذلك نظرة سوداوية، ما زلنا أمام طريق طويل علينا نحن العرب أن نقطعها قبل أن نتمكن من الالتفات نحو مشاكلنا الحقيقة، وعددها ليس بالقليل.

تعليق عبر الفيس بوك