على سلالم جامعة كولومبيا

مدرين المكتوميَّة

(1)

((على سلالم جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك، وبينما كان قرص الشَّمس يتجه نحو المغيب، كان يجلس شاردا -عرفتُ منه، فيما بعد، أنه كان- يفكر: لماذا الرحيل؟ وكيف السبيل للبقاء؟.. كان يعلم أنَّ الإجابة صعبة؛ لذا كان يطردها عن ذهنه سريعًا؛ ليعود لاستكمال حياته دون تفكير في المستقبل الممتد إلى حِيْن. كنتُ أصغي لتجربته وحماس الغربة بداخلي يدفعني إلى المغامرة لأعيش جزءًا منها...)). قد يكون المشهد متقاربا مع غيره من الحكايات المكرورة في إطارها، والمختلفة -نوعا ما- في تفاصيلها، لعدد كبير ممَّن حكمت عليهم أقدارهم أن كانوا يومًا مُغتربين. إلا أن الأمر مع صديقنا هذا لم يكن كذلك.

(2)

... نيويورك، تلك المدينة التي لا تنام، الملأى بأمثال صديقنا هذا "شارد الذهن"، ذاك الرجل الذي كان (كما عرفت منه) يبحث عن الحرية بـ300 دولار في جيبه، وهو لا يتجاوز الثامنة عشرة من عمره ليحكم على نفسه أن يكون هنا بنيويورك، متحملا تبعات قراره؛ فاختار أن يتخطى الصعاب وأن يشعر -ولأول مرة- معنى "أن يكون مسؤولا عن نفسه"؛ ذاك الرجل الذي استوطن أمريكا فاحتضنته لسنين طوال كأحد أبنائها... ظل قرابة الساعة أو ما يزيد يروي رحلته المليئة بمحطات لا يحتمل مقال واحد إبراز واحدة منها فقط؛ ليصيغ مفهوما جديدا للحلم والطموح والرغبة وبناء المستقبل.

لم تكن حكاياه لتمر دون أن تداعب أوتار الأمل بداخلي، فاسنخلت -للحظة- من الواقع سابحة في فضاء العقل الباطن؛ مستذكرةً... ها أنا اليوم أعيش بعضًا من تلك التجربة، بعيدة عن وطني، أبحث عن فندق، وأسال المارة وسائقي الحافلات علني أجد السبيل... وعلى الرغم من أن فترة بقائي بنيويورك لم تتجاوز بعد الأيام القلائل إلا أنني مررت بحلو التجربة ومرها، رأيتُ كيف يحتال ساق التاكسي على غريب لا يود أن يُجادل، شاهدت الكثير من الأحداث التي اهتز لها فؤادي.. يمرُّ على ذاكرتي مشهد تلك الفتاة الملقاة على الأرض تحت ظل شجرة، محاطة برجال الإسعاف والشرطة بعد أن طلبهما أحد أبناء الجالية العربية هناك. وفي زاوية أخرى من المشهد يقف شخصان من السود تتعالى أصواتهما حتى دخلا في عراك جعلني أهرب قبل أن أرى من سينتصر في النهاية.. ويتقافز إلى مخيلتي مشهد تهديد أحدهم لآخر يجلس على أحد المقاهي محاولا إجباره على أن يعطيه المال، وآخر يقف مشدوها لا يتحرك، حتى ساقني الفضول إليه لأفاجأ بأنه مخمور، وهو أمر على ما يبدو ضمن روتين الحياة هنا.

ولكن وللحق، فإن مما ازدانتْ به لوحة رحلتي إلى نيويورك، منذ أن وطأت قدماي مطار (jFk) وحتى غادرته، تلك اللُّحمة الأخوية التي يصوغها أبناء الجاليات العربية هناك، ضاربين أروع الأمثلة في التآخي والشد من أزر بعضهم البعض؛ لأكتشف أن لوعة الحنين إلى الوطن لا يطفئها إلا أمثال من التقيتهم. وعلى ما كان في تلك الرحلة (أو بالأحرى التجربة) من مفارقات؛ إلا أن "الإصرار على تحقيق الحلم" يبقى وحده العنوان الأبرز الذي يندرج تحته كافة ما تعرضتُ له وما عاينته وسمعته خلال تلك الأيام.

(3)

... (إن الإشارات الإيجابية أو تلك السلبية التي يبثها العقل الباطن هي التي تتحكم في تحديد مصير أحلامنا وإمكانية الوصول إليها وتحقيقها؛ فالمرء يعيش كما يفكر، ويحصد ما يزرع، وأحلامنا لابد ألا تظل حبيسة "قفص الأمنيات").. هكذا أفقت فجأة على صوت صديقنا الجالس على سلالم جامعة كولومبيا، الذي كان لكلماته وقع الماء البارد على الظمأ؛ إذ إنه وبعد ذاك المشوار الطويل مع الكد، لا يزال يحلم بالتغيير، وينبش في ذكريات الماضي، ليخرج بدُرر الزمان يهديها لمن بعده ليعيشوا تلك التجربة ويتعلموا منها.. إنه حاتم الطائي.

madreen@alroya.info

تعليق عبر الفيس بوك