ديمقراطية الاقتصاد

حمود الطوقي

في العام 1995 أُتيحت لي فرصة المشاركة في برنامج تعريفي عن اليابان بترشيح من السفارة اليابانية في مسقط..وهذا البرنامج يعد من أشهر البرامج الصحفية التي تندرج ضمن جهود الحكومة اليابانية لتعريف الصحفيين المشاركينبالصورة الحقيقية لليابان كدولة ناهضة بقوة على الرغم من الظروف القاسية والأليمة التي مرتبها بعد تدمير بنيتها التحتيّة في الأحداثالمعروفة بـ "ناجازاكي وهيروشيما" واللتين كانتا بمثابة يقظة وهبّة حقيقيةلشعب نجح في بناء مستقبله دون الالتفاتلتبعات الماضي وقيوده.

أعترف أنني أعجبت مثل غيري من الزملاء الصحفيين بهذا البلد وبنظامه الذي أصبح من أفضل الأنظمة العالمية في مجال البناء والتعمير.. نظاممختلف ضمنيًا عن كل الأنظمة في معظم بقاع الدنيا.

في العاصمةطوكيوومنذ اللحظة الأولى تعرفت على الزملاء الصحفيين القاصدين لهذا البرنامج. كان عددنا15 صحفيًا من الدول العربية والشرق الأوسطجمعتهم طوكيو، وعلّمتهم أسمى معاني الحب والإخلاص وأصبحت بعدها محل افتخار وتقدير..

البرنامج التعريفيتضمّن فعاليات ومحاضرات متنوعة عن النظام الديمقراطي الياباني،والسياسات التي تنتهجها الحكومة اليابانية،وعن حرية الصحافة والإعلاموغيرها من الجلسات الحواريةالتي امتدت لقرابة 45 يومًا، ولم تكن مجرد دورة تدريبية أو ورشة عملومناسبة لاكتساب خبرات في مجال الصحافة والإعلام فقط، وإنّما كانت مناسبة لسبر أغوار المُجتمع اليابانيالذي رسم خارطة الطريق للنهوضبمستوى البلد ليكون واحدًا من أفضل دول العالم حسب "ثقافة الساموراي"التي تغرس في الشعب ثقافة الروح القتالية والانتصار والابتكار وعدم الالتفات إلى الخلف في سبيل تحقيق النجاح.

المجتمع الياباني"الذي تعرّفت عليه يحمل الود والطيبة،وأهم صفة يتحلى بها المواطن اليابانيهي الإتقانالإخلاص في العمل،وهما قيمتان حث عليهما الدين الإسلامي الحنيف، لكننا للأسف الشديد لم نعد نلمسهما في مجتمعاتنا بالشكل المطلوب دينيا أو بما يحاكي على الأقل ما لمسناه في عدد من المدن اليابانية التي زرناها طوال فترة إقامتنا باليابان..

في هيروشيما كنتأمام مفارقة عجيبة، وهي الذهاب لمشاهدةالمتحف الذي بُني لجمع ما تبقى من مخلفات القنبلة النووية التي محت هذه البلدة من خارطة العالم.. توقفت مليًا وأنا أتابع مقتنيات المتحفلاستلهم إرادةهذا الشعب بأن تكون انطلاقته قوية لتجاوز الخلافات والعمل على إحلالمبادئ الحب وجودة العملالتي اعتبرتاليابان نفسها معنية بنشرها في أنحاء الكون.

عندما ننظر إلى اليابان الآن نجدها قد تخطت كل التحديات وعملت على تحقيق رؤيتها لتكون أقوى دولة من الناحية الاقتصادية؛ والغريب في الأمر بل والمحير في نفس الوقت تخطط لغزو العالم اقتصاديا وهي لا تملك المقومات الأساسية ولا تملك مصادر الطاقة ولا تملك أية موارد طبيعيّة تعتمد عليها في الاقتصاد، ومع ذلك أصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم،بل تستورد كل شيء وتقوم بإعادة تصديره بأضعاف مضاعفة، فكل ما نراه في اليابان من تطوّر في التكنولوجيا والبنية والصناعة والسياحة والزراعة هي في الأساس مواد وخامات مستوردة يتم إعادة صناعتها لتكون مصدردخل كبير للحكومة.

أيضا من المبادئ الجميلة التي حرصت اليابان على استغلالها اقتصاديًا واجتماعيًا -على سبيل المثال لا الحصر- الاهتمام بنظافة البلاد، وتجميع القمامة وإعادة تدويرها واستغلالها من كافة النواحي، فمن بين مظاهر اهتمام اليابان بالقمامة أنّ الأطفال في المدارس يأخذون كل يوم ربع ساعة قبل بداية اليوم الدراسي في تنظيفمدرستهم وفصلهم ليتربى الجيل على أهميّة النظافة. علاوة على أن عامل النظافة في اليابانيطلق عليه مهندس صحي، ويخضع للعديد من الاختبارات قبل الوظيفة، فتجميع القمامة في اليابان وإعادة تصنيعها وتدويرها يعد أحد أكبر مصادر الدخل فقد تمكّن اليابانيون من تحويل مخلفات الزبالة إلى طاقة كهربائية.

التجربة اليابانية تستحق أن يُستفاد منها خاصة دولنا الخليجية التي تملك كل المقومات غير المستغلة.

تعليق عبر الفيس بوك