أهميَّة تحقيق التراث

 

مُحمَّد السالمي

إنَّ إحياءَ التراث ضرورة علمية وقومية وإنسانية لكلِّ أمة، وإنَّ الاهتمام به ليس بتاريخ قد عَفَا عليه الزمان، بقدر ما هو عمل حياتي مستقبلي؛ وبذلك علينا أنْ نفيد منه في الحاضر والمستقبل.

يأتي هنا يوسف بكار في مقالته بعنوان "تحقيق التراث كيف ولماذا؟" ليوضِّح أهمية تحقيق التراث، وأن إهماله بدعوى "العصرنة" من حداثة وما بعدها، دون فهم حقيقي لهما، سوى عدوى اللحاق بالآخر وتبعيته!

وعلى الرغم من هذا، فثمَّة من يفترض -بحكم وجوده في الغرب، ومعرفته الوطيدة به- حواريْن وهمييْن يُمثلان -إلى حدٍّ بعيد- ما في أذهان علماء الشرق عن الغرب وبالعكس. ففي حين يتلخص موقف الباحث العربي عموماً في هذا التساؤل: "وما للغرب والدراسات العربية الإسلامية؟"، يرد الباحث الغربي: "إنَّ معظم ما يصدر عن الباحثين العرب والمسلمين، باستثناءات معروفة، مكرَّر ومُعاد لا قيمة له من الناحية العلمية، ولا يساهم بإضافة شيء جديد للبحث في الحقل الذي يدرسه؛ لذلك فإنَّ قراءة أعمال هؤلاء الباحثين توشك أن تكون إضاعة للوقت؛ والوقت أثمن من أن يهدر فيما لا كثير جدوى من ورائه". بَيْد أنه يستثني "منشوراتهم في تحقيق المخطوطات؛ فهذه مفيدة، وهي تضع بين أيدينا النصوص التي ننطلق منها نحن في أبحاثنا. ورغم أن بعض هذه التحقيقات ليست في المستوى المطلوب من ناحية التدقيق أو الطباعة، فإنها لا تفقد قيمتها فقداناً تاماً؛ إذ يظل أسهل علينا أن نرى النص مطبوعاً أمام أعيننا من أن نسافر نطلب له مخطوطاً في مكتبات العالم المتباعدة.

وهناك بعضُ النقاط يجب مراعاتها عند التحقيق؛ مثل: أصالة المخطوطات وما يرتبط بها من مقابلة ودقة وإخراج وعدم الإسراف في الحواشي وخبرة المحقق ومعرفته بموضوع المخطوط الذي يحققه. وهنا يُنبه الكاتب على أمور أخرى مهمة، ألا وهي:

أولا: أن ليس "كل موروث يجب إحياؤه"؛ بحيث أنَّ مفهوم الإحياء ليس بإعادة الطبع، أو نقل المخطوط إلى كتاب مطبوع، بل يجب أولا النظر إلى قيمة المخطوط والفائدة التي يمكن أن تجنى منه من تحقيقه ونشره والوصول إلى الهدف بأن يخرج قارؤه ودارسه بروح يستمدها مما قرأ أو درس.

وهناك كتب لا تستحق الإحياء، ومما لا يستحق الإحياء والتحقيق والنشر مثلاً كتاب "مقدمة في صناعة النظم والنثر" لصاحب "حلبة الكميت" شمس الدين النواجي من (القرن التاسع الهجري) من تحقيق الدكتور محمد بن عبد الكريم. حيث إنَّ الكتاب لا يضيف جديداً إلى ما تعارف عليه النقاد الذين سبقوه في صناعة الشعر والنثر معاً. بل يكاد يكون تلخيصاً لآراء أكثرهم دون أن يذكر أيًّا منهم أو يشير إليه، في الموضوعات التي يطرقها. وهناك عدة كتب مماثلة كان مصيرها الإهمال والتأخير كونها لا تضيف للمستفيد بجديد.

كما ذَهَب الكاتب لنقد المحقق المولع بصنع الحواشي؛ كونه لم يكتفِ بحواشيه "التوضيحية" التي أشار إليها فحسب، وإنما راح يدوِّن دون حساب أكداساً من الحواشي "التعريفية" الزائدة التي لا تضيف إلى الكتاب إلا زيادة في أعداد الصفحات، وأنه إذا جردت هذه الحواشي الزائدة، لتضاءل حجم الكتاب. وبعد أن قطعنا مسافات طويلة في ميادين التحقيق والإحياء: هل نحن في حاجة إلى "حواشٍ" تعرّف بالمعروفين المشهورين من مثل: عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز من أعلام الإسلام؛ وزهير بن أبي سُلمى والنابغة الذبياني والبحتري والمتنبي وأبي فراس الحمداني من الشعراء؟ وغيرهم الكثير من مشاهير الإعلام في التاريخ، هل نحن في حاجة حقاً إلى التعريف بهؤلاء وأمثالهم من المشهورين المعروفين؟!

ثانيا: يأتي الكاتب لإبراز مسألة إعادة تحقيق ما حقق، ويبيِّن يوسف بكار أنْ ليست هناك حاجة ومسوغات إلى إعادة تحقيق ما نُشر، وأن الإعادة تكون في حالات أهمها:

- أن يكون الأثر لم يحقق تحقيقا علميا وفقا للأصول المتعارف عليها. بل يطاله ما اصطلح عليه بـ"الطبع"؛ حيث إنَّ الكتاب ليس محققا، وهو المتعارف عليه في الطابعات والنشرات التجارية.

- أن تكون مسوغات الإعادة علميه مقبولة تنضوي تحت ما يطلق عليه "التحقيق غير التام". العثور على مخطوطات جديدة أدق وأوفى، أو جمع أشعار غير التي في الدواوين أو المجامع الشعرية أو لكثرة أخطاء المحققين الأوائل ومزالقهم. ومن الأمثلة على إعادة التحقيق: ناصر الدين الأسد؛ حيث قام بإعادة تحقيق ديواني قيس بن الخطيم والحادره. وأيضا داود القاضي في إعادة تحقيق كتابي أبي حيان التوحيدي "البهائر والذخائر" الذي حققه إبراهيم البكلاش.

ثم يذهب الكاتب في نهاية المقال للتعريف بـ"مكملات التحقيق"؛ حيث يؤكد أنَّه ليس بكافٍ أن يكتفي المحقق فقط بخدمة النص من حيث توخي الدقة والضبط والشرح والتخريج والتعريف بالأعلام والأماكن التي هي بحاجة إلى تعريف. بل لابد من المكملات أن تجعل المحقق كفوا لمؤلفه؛ فلا ينسى الإتيان بمقدمات وتمهيدات سريعة عن المؤلف وأثره، بل عليه أنْ يُضيف مقدِّمات وافية ضافية عن المؤلفات والدواوين وأصحابها. وكان المرحوم إحسان عباس مثلاً يُحتذى به في هذا المجال، وتعتبر مقدمتاه الضافيتان الثريتان عن ابن خلكّان وكتابه "وفيات الأعيان" وعن ياقوت و"معجم الأدباء" عملا من أجلِّ ما حُقِّق من كتب ودواوين.. وفي الختام، أراد الكاتب إيصال رسالة؛ وذلك فيما قاله إحسان عباس، ومفادها: "أن التحقيق العلمي لن يكون مخذولاً ما دامت تتولاه أيدٍ أمينة".

تعليق عبر الفيس بوك