التطرُّف الديني.. خطره وكيفيَّة مواجهته

صَالح البلوشي

يُعاني الوطن العربي اليوم من أخطر أزمة تهدِّد وجودَه الحضاري منذ عقود طويلة، وتحديدا بعد انتهاء عهد الاستعمار ونشوء مرحلة الدولة الوطنية الحديثة، ألا وهي: التطرف الديني. وعندما يتطرَّف الإنسان في الفكر والسلوك، فإنَّه يلجأ إلى إقصاء كل فكر وخطاب يخالفه، وهذا العداء والإقصاء يؤدي إلى الطائفية البغيضة، فالشخص المتطرف/الطائفي يقتل المخالف له في الرأي؛ لأنه يؤمن إيمانا راسخا بأنه يمثل الحقيقة المطلقة التي لا تحتمل أي خطأ؛ لذا فإنَّ كلَّ من يخالفه هو كافر ويجب قتله؛ لذلك لا يؤمن المتطرف بالمواطنة؛ لأنه يعتقد بالمواطنة في الطائفة فقط، فهو يوالي أبناء طائفته ولو كانوا في بلادٍ بعيدة، ويتبرأ من أبناء وطنه إن كانوا ليسوا من طائفته ومذهبه. وأخطر أنواع المواطنة الطائفية من يعلن الولاء لقيادات سياسية ودينية خارج بلده لمجرد وحدة الانتماء الطائفي فقط.

ينتشرُ الخطابُ الطائفي والمذهبي اليوم بشكل سريع في الدول العربية، تساعده في ذلك ماكينة (آلة) إعلامية ضخمة جدا تتكون من عشرات القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية التي تعمل ليل نهار من أجل ترويج الخطاب التكفيري والإقصائي بين الشعوب العربية. ورغم الجهود التي تبذلها بعض الحكومات العربية من أجل التصدي لهذا الإعصار الكارثي المدمر والحد من خطورته، إلا أنها -ومع ذلك- تظل جهودا خجولة ولا ترتقي إلى مستوى التعامل مع هذا الحدث، خاصة وأنَّ كثيرا من هذه الجهود تعتمد على أساليب خاطئة وتكاد تساعد على نشر التطرف بدلا من مواجهته؛ لذا كانت أخطر نتائجه انتشاره في أماكن العمل والمدارس، خاصة بين الشباب، الذين بدأوا يتناقشون في قضايا لم تكن ضمن اهتمامهم في السابق؛ مثل: الإمامة والخلافة وحكم المرتد والجهاد والقضايا العقدية؛ مما يعني أننا أمام نشوء أجيال مشبعة بالمفاهيم الطائفية والمذهبية التي قد تكون مرشحة للانفجار في أي لحظة.

... إنَّ الإنسان لا يختار مذهبه وفق اجتهاد علمي أو بحث في المذاهب والأديان؛ وإنما يكتسب المذهب بالوراثة عن والديه، ويولد على المذهب الفلاني أو الطائفة الفلانية؛ لذلك فإن الشخص الذي نجده يتعصب اليوم للسلفية ويعدها الفرقة الناجية والطائفة المنصورة؛ ولو ولد في النجف بالعراق أو القطيف بالمملكة العربية السعودية لربما كان من أكثر الناس تعصبا للشيعة، وكذلك الشخص الذي يمارس تعصبه باسم التشيع والولاية لأهل البيت، فقد يكون متعصبا للسلفية لو كان قد ولد في القصيم بالسعودية. فقضية اختيار المذهب وراثية وتخضع للبيئة التي يولد فيها الإنسان وليست اجتهادية، ولذلك فلا يمكن لأي طرف الادعاء أنه يمتلك الحقيقة المطلقة أو يمثل الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، ولا يمكن أيضا أن يحارب الآخرين تحت هذا العنوان أو يطعن في مذاهب ومعتقدات الآخرين.

... إنَّ هذا الخطاب التكفيري المتطرف يحمل في بنيته الداخلية حقدا لكل مشروع حداثي يهدف إلى تنوير العقل العربي، وأصبح يشكل خطرا وجوديا على الأمة العربية بأسرها، بل العالم أجمع، فقد أصبحت شعوب العالم تنظر إلى العرب والمسلمين بوصفهم إرهابيين ومتعطشين للدماء وأصبحوا خطرا على العالم، خاصة بعد العمليات الإرهابية التي حدثت في فرنسا وتونس مؤخرا وتبنتها -بما تعرف-تنظيم "الدولة الإسلامية" الإرهابي. لذلك؛ فإنَّ مسؤولية محاربة هذا التنظيم هي مسؤولية عربية وإسلامية بالدرجة الأولى وليست أمريكية أو غربية، خاصة وأن وجود التنظيم لم يعد محصورا في سوريا والعراق كما في السابق، بل تجاوز نشاطه الدموي ليشمل دولا أخرى كاليمن ومصر وليبيا، بل إنَّ دول الخليج بأجمعها أصبحت تحت مرمى انتحاري التنظيم وأحزمته الناسفة، فقد أصبحت شعوب المنطقة تصلي الجمعة بحماية أمنية مشددة؛ مما يعني أنَّ التطرف لا يعترف بالخطوط الحمراء في عملياته الإرهابية، فهو يضرب في كل مكان يستطيع الوصول إليه حتى الأسواق والمساجد.

وفي هذه الأجواء الطائفية الدموية التي يمر بها الوطن العربي، فإنَّه من المهم جدًّا إجراء دراسات ثقافية عميقة لظاهرة التطرف والإرهاب؛ من أجل مواجهة هذه التيارات بشكل فعّال وجاد بعيدا عن الخطابات الوعظية والسطحية الغارقة في الماضوية والرافضة لكل نقد للموروث الديني والمسلمات المذهبية. ومن المؤسف أنَّ بعض الدول -وبدلا من مواجهة التطرف بخطاب ثقافي تنويري يدعو إلى قيم التعددية والتسامح والألفة والمحبة في المجتمع- تلجأ إلى الاستعانة ببعض الدعاة الطائفيين المعروفين في مواقع التواصل الاجتماعي؛ حيث يعمد هؤلاء -دُعاة جميع المناسبات- إلى تغيير خطابهم المتطرف إلى آخر مخالف له يندد بالتطرف ويدعو إلى التسامح. ومن المؤسف أنَّ ينخدع البعض بهذه الأساليب الرخيصة التي يلجأ إليها هؤلاء؛ إذ إنَّ خطاباتهم وتصريحاتهم وكتاباتهم تشهد أنهم في مقدمة الداعمين والمروجين للتطرف في العالم العربي، ولكن يبدو أن العقل العربي لا يؤمن إلا بالخطاب الديني الوعظي فقط؛ لذلك فشلت جميع المحاولات الأمنية والثقافية والدينية في مواجهة التطرف الديني حتى الآن، وسوف يستمر هذا الفشل إذا لم تتدارك الحكومات العربية والمؤسسات الثقافية والدينية أسباب هذا الفشل؛ فمواجهة التطرف الديني وآثاره التدميرية على النسيج المجتمعي لا يكون بخطاب متطرف آخر، وإنما -بالإضافة إلى الحلول الأمنية والإجراءات القانونية- وضع برنامج فكري متكامل، وتأسيس مراكز دراسات وبحوث تقوم بدراسة هذه الظاهرة من جذورها وتحليلها وتفكيك الأصول الفكرية والدينية التي يرتكز عليها خطابها، وتأسيس خطاب حضاري يؤمن بالتعددية وحرية الاختلاف والتعبير عن الرأي والضمير.

تعليق عبر الفيس بوك