حروب الإيمان!

أحمد الرحبي

قد يفسَّر استمرارُ المرء في مَسْعاه الدائب لتطوير نفسه في الحياة، بأنَّ حركته تلك تأتي بفعل طموحه وثقته بنفسه، مُخضعا التصميم والإرادة لخدمة هذا الطموح باذلا كلَّ الجهد والتفاني في ما يعده هدفا لتحقيق ذاته المشحونة بالإخلاص للانتقال بالطموح إلى حقيقة مترجمة على أرض الواقع، وإذا نحيَّنا الطموح جانبا وركزنا على الإيمان -الذي هو أكثر أثرا وفاعلية بكثير- في أن تؤمن بشيء من أن تطمح إليه، خاصة في مسألة الالتزام بالأهداف والغايات المرسومة، وصولا لجعل الالتزام بها أمرا لا يقبل الجدل أو المناقشة تحت أي مبرِّر كان، فإنَّنا يُمكننا القول بأنَّ الإيمان أكثر مدعاة للوثوق به من الطموح؛ فهو المبرهن على الحركة؛ وذلك بالانطلاق للأمام دائما دون توقف مطلقا، كأثر سحري لا يقاوم من الإيمان.

لكن، هل يُمكن مُناقشة الإيمان ووضعه تحت مِبْضع التشريح الفكري والنفسي الدقيق؟ قبل ذلك: هل الإيمان -سواء كان قائما على فكرة دينية أو فلسفية، أو بالاعتماد على أية فكرة كانت- قابل للمراجعة أو للدحض أو للتغيير، وكيف يمكن فهم الإيمان وكيف يمكن قبل ذلك عقل (من العقل) تأثيره الطاغي في الجموع العريضة من البشر التي يسيرها شدة إيمانها بمعتقد بعينه أو بفكرة بعينها، إلى معانقة أقصى حدود الحماسة والجنون في أفعالها، أو ما تتسم به ردود أفعالها ناحية ما قد تعتبره ظنا أنَّه مسٌّ بقدسية هذا الإيمان الذي تعتنقه، ومن تصرفات هي تعتبر خروجا على جادة العقل والصواب أغلب الأحيان، وهل يُمكن فهم الإيمان وأثره على الفرد، أبعد من التعريفات المعتادة أو التوصيفات الجاهزة التي وضعت في العادة لوصف تصرفات الأشخاص وسلوكهم تحت دافع الحماس الشديد لفكرة والاندفاع الأهوج بفعل سحرها، وكالافتتان بشخص وبسلوكه وأفكاره والإعجاب به إلى حد الهوس، أو الحماسة المنقطعة النظير لتأييد فكرة أو طرح معين، أم أنَّ الإيمان شيء آخر ومختلف في تعريفه، والإلمام بالأثر السحري الذي يداخل الأشخاص والجموع نتيجة ما تخلفه روحه (الإيمان) فيهم من وشم قدسي مبارك مطبوع في دمهم؟!

فإذا ما نظرنا -بعُمق- إلى الإيمان كمفهوم نجده وراء تلك القوة الغامضة التي قد يستمدها الفرد في بعض المواقف العصيبة من لا شي، وإنه وراء التماسك والمسؤول في الوقت ذاته عن تحرُّك الجماهير في أي دين أو معتقد؛ فالإيمان لا يحتاج إلى أدلة وبراهين، هو غير قابل للإثبات أو الاحتمال فهو حاسم لا يقبل التراجع، حيث الخاصية الأبرز في الإيمان هي الوظيفة المحركة الكامنة فيه التي تساهم في صنع المعجزات والقدرة على سن القوانين المصيرية للعالم وتعديل اتجاه التاريخ.

والإيمان نجده هو المسؤول عن التقريب بين وعي الأفراد وما يصنع المشترك والجماعي بينهم متجاوزا القيم الذاتية والفردية بل وعلى حسابها أحيانا؛ حيث يعتبر الإيمان المكوِّن الأساس في الأيديولوجيات، ويغدو مجرد مناقشته هرطقة لا تغتفر للمتورط فيها.

وضِمْن اشتغاله بالبحث حول الشأن الديني يعمد الكاتب الألماني ريجيس ديبريه صاحب رواية الطبل والصفيح، إلى إصدار كتاب بعنوان "النار المقدسة" ملخِّصا فيه كلَّ ما تناوله من قبل حول هذا الموضوع، وفي حوار مُترجم معه حول الكتاب يقول ديبريه: ما شغلني في هذا الكتاب الإجابة عن أسئلة من نوع: ما الذي يجعل المرء يُقرِّر المخاطرة بحياته؟ ما الذي يجعل الفكرة -وإن كانت خاطئة- تغير عالم الواقع؟ وبماذا يُفسر انخراط الأفراد في تشكيل عصابات وجماعات وأحزاب وأمم وكنائس؟ وما الخطوات التي تؤدي بالناس تدريجيا إلى التجمع، وما الذي يدفعهم نحو الفعل؟ ويضيف ريجيس ديبريه: إن الإيمان هو أساس كل قوة ويضرب مثلا على ذلك، إنه في اللحظة التي يكف فيها معظم الناس عن الإيمان بأن الورقة النقدية تعادل القيمة التي تعلن عنها، تكون نهاية النظام النقدي الذي تمثله تلك الورقة.

وبالنظر إلى حفلة الجنون الطائفية والمذهبية المرعبة التي تشهدها منطقتنا، والفظائع الدموية للحرب والذبح والقتل التي تنتج عنها، يُعتبر الإيمان منطقة خطرة وخطًّا أحمر لا يجب تجاوزه أو المساس والعبث بمسلماته وثوابته، لما يقع خلف هذه المنطقة والخط الأحمر، من جنون وعنف مُنفلت لا يمكن التحكم به إذ ما انطلق من عقاله، وهذا ما نشهد نتائجه حاليا بشكل كابوسي في المنطقة العربية والإسلامية، فيما يجب أن يسمى بحروب الإيمان التي يبدو أنه لن تهدأ بسهولة طاحونتها المشؤومة في المدى المنظور.

تعليق عبر الفيس بوك