طقوس العيد.. حلوى وقهوة وسياسة

فؤاد أبو حجلة

قضيتُ إجازة العيد مع أسرتي في الأردن، والتزمتُ بطقوس المناسبة التي تقتضي تبادل الزيارات مع الأقارب والأصدقاء، والالتزام بالبرنامج الصارم للزيارات التي تبدأ بتقديم فنجان من القهوة العربية للضيف، تتبعها مباشرة قطعة من حلوى العيد التي تكون عادة محشوَّة بالتمر أو المكسرات، ويتم التهامها الإجباري خلال الفقرة الأولى من الزيارة، التي يتبادل فيها الضيف والمضيف السؤال عن الصحة وأحوال العمل وأخبار الأبناء؛ سواء الذين تخرجوا في المدارس أو الجامعات، أو الذين تحرَّروا من حريتهم بدخولهم الأقفاص التي يقال إنها "ذهبية".

في العادة تستغرق هذه الفقرة خمس دقائق فقط من وقت الزيارة، ثم تبدأ الفقرة الثانية التي يشكو فيها الضيف والمضيف من غلاء الأسعار وارتفاع كلف المعيشة ويتحول كلاهما -أو واحد منهما على الأقل- إلى محلل اقتصادي يربط بين انخفاض أسعار النفط وارتفاع أسعار حلوى العيد وقطائف رمضان. وفي إحدى هذه الزيارات كدت أقتنع أن الارتفاع المفاجئ لأسعار الفستق الحلبي يعود إلى ضعف التداول في بورصة طوكيو!

وفي الفقرة الختامية من زيارة العيد، يجري حوار سياسي يتناول أحوال المنطقة والصراعات القائمة فيها برؤى تحليلية معمَّقة يطرحها المشاركون في الحوار، الذين يتحولون فجأة من محللين اقتصاديين إلى مفكرين إستراتيجيين، يفككون المشهد العربي الراهن ثم يعيدون تركيبه بما يتوافق واستنتاجاتهم الاستشرافية. وتشهد هذه الفقرة عادة بعض المواجهات اللفظية العنيفة بين أطراف الحوار المختلفين في المواقف والتوجهات.

وبالطبع، لا يخلو الحوار من التذكير بالتاريخ العربي بطريقة مدهشة تجعلك تشعر أن البصرة وغرناطة مدينتان منسوختان عن نموذج واحد، كما لا يخلو الحوار من المقارنات الذكية التي تشعرك بأن الفارق بين كوريا وسوريا ينحصر فقط في صناعة السيارات قليلة الكلفة. ويتواصل التحليل ليصل إلى الجزم بأن إسرائيل كيان كرتوني لا يستطيع الصمود أمام زحف عربي محدود! ويذهب البعض إلى التأكيد على هشاشة المجتمع الاسرائيلي الذي سينهار من الداحل عندما يصطدم الاشكناز مع السفرديم، ولذلك فلا حاجة إلى الحرب لتحرير فلسطين.

ولأني صحفي، فإنني أتعرض إلى أسئلة ذكية كثيرة؛ مثل: هل تستطيع الدول العربية أن تهزم "داعش"، أم أنها ستواصل اجتياح المدن؟ وهل تنتهي حرب اليمن هذا العام أم أنها مرشحة للاستمرار؟ وهل أبو بكر البغدادي في العراق أم في سوريا؟ ولماذا فشل "الربيع العربي" في تحقيق التغيير؟ وكيف تعمل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في المنطقة؟ ومن هم جواسيسها؟ وكم يتقاضون شهريا؟

... تتواصل الأسئلة الذكية لتصل إلى أزمة اليونان وشخصية رئيس الوزراء الاشتراكي الذي لا أعرف اسمه، ويسألني الحضور عن سر تحديه لأوروبا!

أتجنَّب التورط في الرد على الأسئلة، وأنشغل بقضم الحلوى، وألم الأسنان.. فيكتشف المتحاورون أنني ساذج وجاهل في السياسة، ويتوقفون عن إمطاري بالأسئلة المستحيلة. لكنني أسمع بعضهم يتهامس بأنني أعرف أسرارا خطيرة ولا أستطيع البوح بها في المجالس العامة، ويختم أحدهم بالقول: "يا عمي الزلمة واصل وعارف كل شيء، لكن ما بيقدر يحكي"، فأشعر أنني الرئيس السابق للسي.آي.إيه، أو الكي.جي.بي، وبسبب ضخامة مسؤولياتي لا أستطيع الحصول على الوقت الكافي لترميم أسناني التي يقتلني وجعها.

وفي نهاية الفقرة الثالثة والأخيرة يسود الصمت لمدة دقيقة على الأقل، فيما يبدو أنه إيذان بانتهاء الزيارة فأقف لاستأذن بالمغادرة، والانطلاق إلى بيت آخر يتكرر فيه المشهد بكل فقراته، وألوذ فيه بالصمت وبحلوى العيد.. وألم الأسنان.

وينتهي اليوم الأول بعودتي إلى البيت منهك الجسد ومحطم الاحساس، وأستلقي على سريري وأنا أبحث عن أجوبة غبية للأسئلة الذكية؛ فأخلص إلى أن "داعش" لن يستطيع الاستمرار في احتلال المدن لأنه لن تبقى في المنطقة مدن تغري بالاجتياح، ولأن الدواعش ربما يصبحون دواحس أو دواشر أو يتحولون إلى مخلوقات فضائية تعود إلى مواطنها في مركبات غريبة. واستنتج أيضا أن الحرب في اليمن ستنتهي بعد تحقيق المصالحة بين روسيا وأوكرانيا، وأن أبو بكر البغدادي ربما يقضي إجازته السنوية على شواطيء الريفيرا، وأن "الربيع العربي" لم يزهر بسبب ارتفاع درجات الحرارة الناتج عن ثقب الأوزون، وأن جواسيس أمريكا كثيرون لكن رواتبهم منخفضة بسبب انخفاض سعر صرف الدولار!

ما الذي يورطني في الانخراط في هذا الجنون العربي الشامل؟

في الواقع لا أجد تفسيرا غير أنه قدري.

اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكني أسألك اللطف فيه.

تعليق عبر الفيس بوك