رقصة زوربا

أسماء القطيبي

إنّ التعبير عن المشاعر والانفعالات أمر من صميم تكوين الإنسان، فمن خلاله يستطيع التفاعل مع ما يحدث من حوله، وعلى أساسه يُحدد مواقفه وتصرفاته وعلاقاته. والمشاعر غالباً تبدو متداخلة، لذا يصعب التعبير عنها بدقة، كما أنها لا تأتي بشكل مُنفرد فالحزن والتعاطف والخوف والامتنان، جميعها مشاعر قد يحس بها الشخص في لحظة واحدة، لكنها تأتي بنسب معينة، ويظهر على الشخص منها ما هو أكثر قوة وتأثيرًا.

وللناس في انفعالاتهم مذاهب. خاصة عند تلقي الأخبار المفاجئة، ردود الفعل حينها تكون عفوية، وجنونية أحياناً. ولعل أغرب طريقة للتعبير عن الانفعالات هي ما كان يقوم به بطل رواية نيكوس كازنتزاكيس الشهيرة (زوربا) حيث إنّه كان يُعبر عن مشاعره بالرقص. فهو يرقص حين يحزن، ويرقص حين يفرح، ويرقص حين يُريد أن يتخلص من أيّ شعور سيئ يطغى عليه، فبالنسبة لزوربا الرقص هو طريقة للتواصل مع العالم، وطريقة للتواصل مع الآخر حتى لو كان يتحدث بلغة لا تفهمها. ويسخر زوربا من النّاس التي لا تجد طريقة للتعبير إلا بالحديث، كونها طريقة ناقصة في إيصال مقدار الشعور وحِدته، وفي حديث له مع صديقه يقول:"أواه ياصديقي.. ما الذي أصاب أجساد النّاس حتى تصاب بالبكم، فأصبحوا لا يتحدثون إلا بأفواههم.. ولكن ماذا تستطيع الأفواه أن تقول؟". إن زوربا هنا لا يدعونا للرقص خصوصًا، ولكنه يحثنا على إيجاد طرقنا الخاصة في التعبير عن انفعالاتنا، كما أنّه يستهزأ من أولئك الذين لا يعيشون انفعالاتهم إلى أقصاها، أولئك الذين يظلون ثقيلين بسبب حملهم لانفعالات عدة لم يعبروا بشكل كامل. فالحياة قصيرة، ولا تستحق أن نأخذها بجدية كبيرة.

ومن المشاعر التي اعتقد أننا ما زلنا عاجزين عن التعبير عنها كمجتمع كما يجب هي مشاعر الفرح والسعادة، فالتعبير عن الفرح في مجتمعاتنا يلتف عادة بنوع من الخجل، وعيش لحظة الفرح إلى أقصاها يُعد مبالغة وخروجا عن الذوق العام وآداب اللياقة، بينما تعد المبالغة في الحزن أمرا طبيعيا ولا خجل من إظهاره! ولعل الأمر يرتبط بالخرافات المتعلقة بجلب مظاهر الفرح كالضحك للفأل السيئ، مما يجعل الغالبية يتحفظون في إظهار فرحهم بالأخبار السعيدة -أمام الناس على الأقل-. وهنا تأتي المناسبات الدينية المتمثلة في عيدي الفطر والأضحى فرصة للتعبير عن الفرح، بصورة جماعية ودون حرج أو تكلف. كما أنهما تخلقان نوعاً من الألفة بين الناس، ومبررا للتجمع والسعادة، وتناسي هموم الحياة ومشاغلها لبعض الوقت.

تأجيل التعبير عن المشاعر أو كتمها، وخاصة المشاعر السلبية، من أسوأ الأمور التي يرتكبها الإنسان في حق نفسه. وتبدأ آثارها في ضعف شخصيته وقلة ثقته بنفسه وبالآخرين، وتمتد لتشمل الألم الجسدي، فقد أثبت الطب أن كثيراً من الأمراض العضوية يعود سببها إلى انفعالات غير مُعبر عنها، فالقلق مثلا له تأثير مباشر على أداء بعض الأجهزة في جسم الإنسان، كما أن الحزن المكتوم يضعف الجسد وينهكه. وللتخلص من هذه الانفعالات أو إظهارها يقترح علماء النفس عدة طرق مثل ممارسة الرياضة واليوجا، أو عن طريق وسائل أكثرعصرية كالتنويم المغناطيسي. وميزة هذه العلاجات أنها تحفز العقل اللاواعي لإظهار الشخص على حقيقته دون قيود مما يسهل عليه التصرف بتلقائية.

لكن ماذا عن الانفعالات غير المحببة أخلاقياً كالغضب؟ جرت العادة أن يقوم كل شخص منّا بإخفاء هذه الانفعالات، ليحافظ على علاقته بالآخرين ويتجنب إيذاءهم، ولكن بالمقابل يؤدي إخفاؤها مرة تلو أخرى إلى تراكمها، مما ينتج الآثار السلبية التي تحدثنا عنها. وهنا لا يُكمن الحل في السماح لهذه المشاعر بالظهور لتتسبب في جرح الآخرين وإيذائهم، مما يؤدي إلى ندم الشخص لاحقاً، وإنما بمعالجة بواعث هذا الشعور أساسا، وهي بواعث تأتي من شخصية الفرد نفسه وتنعكس على تعامله مع ما حوله، ليتم استبدال هذه المشاعر السلبية لاحقاً بمزيد من التقبل وحب الآخر. ولعل ابتكار طريقة لطيفة كطريقة زوربا في التعامل مع الانفعالات ستجعلنا ندرك أن ما من شيء يستحق أن نخسر من أجله صحتنا وراحتنا النفسية، وأن الانفعالات الحادة ما هي إلا ثورة مشاعر يتغيب فيها العقل لفترة مؤقتة، ليعود لاحقاً لوضع الأمور في نصابها.

Asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك