تعليم من أجل الأمن الفكري

د. سَيْف المعمري

فِي الوقت الذي كانتْ فيه "نظرية الأمن" تُفسَّر من قبل كثيرين في ضوء ارتباطها بالحماية من الغزو أو الاختراق المباشر للقوى المعادية أو للحماية من نشاط المجموعات الليبرالية التي تركز على الأفكار المرتبطة بترسيخ المواطنة والدولة المؤسسات، كشفت الأحداث أنَّ هذه التفسيرات لمفهوم الأمن قاصرة؛ لأنها لم تأخذ بعين الاعتبار الفكر ليكون جزءا من منظومة الأمن؛ لذا جاء الاختراق الأكبر فكريًّا حيث عبر الحدود وتغلل إلى العقول التائهة بأفكار دينية برَّاقة -يتردد غير المفكر- في مقاومتها؛ مما قاد آلاف الشباب إلى أن يمضوا إلى فكرة مميتة لا شيء إلا لأنهم مستلبون عقليًّا بأفكار قبل حداثية لا يمكن أن يُقر بها إنسان في القرن الحادي والعشرين، ويفترض أنه لا يمكن أن تتوالد في بيئات تملك مخزون بشري قادر على تغيير هذه الأوطان لو تم استثمار بشكل صحيح بدلاً من التفرج عليه وهو يقع فريسة في أيدي هذه الجماعات التي تنشر الموت وتحرض عليه.

... إنَّ المواجهة مع الاختراق الفكري ليست سهلة لأنه يتسلسل من باب لا يمكن أبدا غلقه، هذا الباب الذي كان يُفترض أن يفتح من أجل التدبر والتفكير والإنتاج والبناء، إلا أنه فتح من أجل الاستغلال وتأجيج الكراهية والتطرف في عقول شباب لا تزال غير قادرة على تمييز معاني كبيرة جدا كمفهوم "الجهاد"؛ فكيف يمكن تحقيق هذا الأمن الفكري في ظل هذه الفوضى الدينية التي تعم الوطن العربي؟ كيف يمكن تحقيق ذلك في ظل الصراع على الإسلام؟ كيف يمكن تحقيق ذلك في ظل إقصاء الفكر النقدي من مناهج التعليم؛ حيث يتم التركيز على حد تعبير المفكر محمد جواد رضا على "ثقافة التلقين والتسليم" بدلا من التركيز على ثقافة "الاستقصاء والتحقيق"، أن ما تُواجهه البلدان العربية اليوم لا يمكن أن ينسب كله إلى مناهج التعليم إلا أنه -في الوقت نفسه- لا يمكن إعفاؤها من مسؤولية ما يجري؛ فالتعليم وظيفته في ظل هذه الفوضى التي تعم البلدان العربية هو بناء جدار، كالذي بناه الملك الصالح "ذو القرنين" لأولئك القوم الذين كانوا -كما يُروى- يعيشون بين سدَّين أو جبلين بينهم فجوة، من أجل حمايتهم من تسلط وغطرسة يأجوج ومأجوج اللذين قال الله سبحانه وتعالى بشأنهما في سورة الكهف: "حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا" (الآية:92). فهل تنجح المدارس والجامعات العربية اليوم في بناء ذلك السد الفكري ضد هذه الأفكار المميتة التي تنشرها هذه الجامعات؟ أم أنها ستظل تتفرَّج دون ردة فعل وهي المعنية في الأساس بإعادة السلطة للعقل في الوطن العربي حتى لا يتم التلاعب به من قبل القوى الدينية والسياسية والاستعمارية، وتكون النتيجة ليست صفرا، وإنما "رقم سالب" يصعب تعويضه.

إنَّه لمن المؤسف في ظل الثورات والتحولات التي يكون منطلقها أيديولوجي ألا تكون المواجهة بنفس السلاح؛ فلا يُمكن تحقيق الأمن الفكري بدون مخاطبة العقول، دون مواجهة الأفكار بالأفكار، دون ثورة فكرية على مختلف المستويات، نحن أمام جيل يشاهد اليوم القتل على مختلف القنوات التلفزيونية، ويشاهد احتفالات الفرح بالتصفية التي تقوم بها بعض الجماعات اللاانسانية؛ وبالتالي أخشى كثيرا أن نتوانى كثيرا في التعامل مع هذه الموجة البربرية، وخشيتي تتزايد من ردة فعل قوية تقود إلى إقصاء التعليم الديني من المدارس، أو تهميشه من المناهج الدراسية؛ لأنَّ في هذا ضيق أفق كبير في فهم ما يجري على الساحة؛ فالتعليم الديني المقصود الذي تقدمه المدارس وفق رؤية متزنة وسطية غير استغلالية، هو السبيل للحد من استغلال الدين وفق أطر غير تلك التي يمكن أن يسمح بها، وهذه المخاوف عبَّر عنها بعض السياسيين؛ مثل: رئيس الحكومة التركية أحمد داود أوغلو الذي ندَّد بقرار صدر في الآونة الأخيرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ينتقد التعليم الديني الإجباري في المدارس التركية؛ معتبرا أنَّ غياب هذا التعليم قد يدفع البلاد نحو التطرف على غرار ما هو حاصل في العراق وسوريا. ولقد أكَّد على دور الدولة اليوم في الإشراف على تعليم ديني معتدل؛ حيث قال: "في حال لم تؤمن الدولة تعليماً دينيًّا صحيحاً؛ فسيزداد التشدد الذي نشاهده حولنا". ولم يتوقف الأمر على تركيا فقط، بل إنَّ روسيا أعلنتْ منذ العام الماضي عزمها تطوير التعليم الإسلامي من أجل بناء وعي ديني سليم لا يترك مساحات كبيرة للقوى المتشددة لتستغل العقول في زراعة التطرف بداخلها. ولقد كان هذه التوجُّه الروسي ردة فعل عملية لمخاوف الأجهزة الأمنية وقلقها جراء سفر الشباب المسلمين إلى الخارج قصد الدراسة الدينية.

... إنَّ التعليم الديني من أجل تعزيز التطرف والكراهية أصبح اليوم كما كان في السابق في ظل الصراع الشيوعي الأمريكي في أفغانستان أداة سياسية؛ حيث يتم استغلال الشباب لتحقيق أغراض لقوى لا يعلمون عنها شيئا، وهذا ما تتنبه له القوى الكبرى اليوم مثل روسيا التي تحاول أن تبعد شبابها عن مراكز التعليم الديني التي تسمِّم أفكارهم، وهم يعلمون أن الذي يقف وراء هذه المراكز يستهدفهم وغيرهم، فقد أكد ألكساندر بورتنيكووف مدير هيئة الأمن الفيدرالية الروسية -في 14 أكتوبر الماضي- في جلسة اللجنة القومية لمناهضة الإرهاب: "إن عدد المواطنين الروس الذين يتم إعدادهم في مراكز التعليم الإسلامي الأجنبية كدعاة كبير جدًّا، ما إن يعودوا إلى الوطن حتى يشرعوا بترويج أفكار دينية هدامة".

إنَّ التركيز على التعليم الديني المبني على تعاليم الإسلام الصحيح، الذي يحترم الإنسان والعقل يعتبر ضرورة وليس خياراً؛ لأن هناك كثيرين اليوم يحاولون -سواء من خلال الفضائيات، أو من خلال مواقع الإنترنت، أو حتى من خلال الدروس الدينية- أن يجعلوا الشباب كما الإسفنجة يتشرَّبون كلَّ شيء يقال لهم بغض النظر عن مصداقيته، وسواء كان حقا أم باطلاً؛ وبالتالي فلابد أن نحمي شبابنا من هذا الغزو، ونحاول أن نجعلهم يتمتعون "بأمن فكري"؛ لأن لا استقرار لوطن مع عقول مضطربة مشوشة، هذه مسؤولية لابد أن تقوم بها مؤسسات تعليمية ورسمية تتمتع اليوم بقدرة منهجية ومالية، إن هذه المراجعة ضرورية ليست لليوم ولكنها للغد أيضا؛ فمن غير المتوقع أن ينحسر نشاط هذه القوى المتطرفة ومن يقف وراءها خلال عام أو عامين، وضرورية لمجتمعات يشكل الشباب فيها الغالبية العظمى، وضرورية لمجتمعات لا تزال موضع استهداف نتيجة لاستقرارها وتسامح سكانها؛ وبالتالي من الأفضل لنا أن نوظِّف التعليم ومؤسساتها بفاعلية لوضع جدار قوي لا يمكن لهذه القوى اختراقه.

saifn@squ.edu.om

تعليق عبر الفيس بوك