زقزقة العصافير

عهود الأشخريَّة

مَنْ منَّا اليوم لا يريد أن يعود لطفولته التي تختصر كلَّ سلام العالم في البساطة.. بساطة الفرح في أول الفجر، الرَّكض وراء أي طريق يرسم الضحكات على وجوه التفاصيل.. بساطة الأشياء والألوان والمشاعر التلقائية العفوية؟ مَنْ منَّا لم يتمنَّ في نهاية اليوم أن يعود صغيرا، وأن يستيقظ ليستقبل طفولته بعيدا عن القضايا الكبيرة التي تحدث الآن. إنَّ الحقيقة التي نتبعها، أننا مهما كبرنا، نعود أطفالا ونرفض فكرة المراحل المتقدمة، نرفض أن نستمر في النمو أكثر لأنه كلما مات الطفل فينا، ماتت الرغبة الحقيقية في الحياة.

أنا أرى أنَّ الطفولة هي العودة لدهشة الأشياء حتى وإن كبرنا فهي متأصلة مع هذه الدهشة، هي ألا تذبل أعيننا إطلاقا، بل أن تبقى لامعة أبدًا، كما يفسر الكاتب اليوناني "ريتسوس" توقف موسيقى الأشياء فينا وجمالها بقوله: "هكذا نألف كل شيء، حتى الشيء الذي أدهشنا يوما، هو الآن مبتذل بائخ. ليست الأشياء وحدها التي تبهت، وإنما عيوننا تبهت أيضا"، لكن الطفل يكون في بدء هذه الدهشة، وهو يتعرف على العالم من خلال خياله الواسع، حتى مع ضآلة تجربته في الوجود لكنه أكثر وعيا، وأكثر استيعابا لتدفق الأشياء فيه/ إنه إناءٌ فارغ.

"يُحكى أنَّ أحدَ ملوك أثينا كان جالسا في حديقة قصره فرأى طفله الصغير وهو يمرح ويلهو بلا حسيب ولا رقيب، فناداه وقال له: يا بني، هل تعلم أنك أنت من يحكم العالم؟! فتعجب الطفل وظن والده يمازحه فأراد مجاراته في المزاح قائلا: وكيف يا والدي أحكم أنا العالم؟ فأجاب الأب بكل وضوح: اليونان تحكم العالم، وأنا أحكم أثينا، وأمك تحكمني، وأنتَ تحكم أمك، فأنت يا صغيري من يحكم العالم!" إن هذه القصة المتعارف عليها ما هي إلا تفسير لسطوة الطفل وقدراته العالية التي هي مهملة الآن بعبارات أنه طفل ولا يمكنه أن يفهم شيئا! لكن هذا ليس صحيحا؛ فالطفل هو مدرسة حقيقية قبل أن ندخل عليه أفكارنا التي تجعل منه جاهلا أحيانا! الدكتور عدنان إبراهيم يؤكد كثيرا أنَّ الأطفال عباقرة وفلاسفة بالفطرة، كائنات متسائلة تسيطر عليهم الدهشة حتى إذا كبروا نمّطناهم وحولناهم إلى حمقى. وفي الفكرة ذاتها يقول براين غرين: "يبدأ الأطفال حياتهم كمستكشفين للمجهول، مستهترين وببلا حدود، منذ أن نبدأ بالمشي والكلام تملكنا الرغبة بمعرفة كيف يجري كل شيء حولنا - نحن جميعا تبدأ حياتنا وكأننا علماء صغار".

ونحن في الحقيقة دائمو البحث عن الأشياء البكر التي لم تفقد بريقها، ولم نكن نعلم أننا كنا طوال حياتنا نبحث عن أشياء قريبة جدا منا، لكن الفاصل أننا لم نكن نراها كما يجب أن نراها، لأننا لم نفكر أن نشاهدها بعيون الطفل، أن نراقبها، ونجعلها كعصافير في قلوبنا حتى تستمر موسيقاها دائما ولا نفقد متعة البحث عن الأشياء الجميلة؛ ذلك لأنَّ العصافير باقية فينا.. تتمدَّد مع قدرتنا نحن.

شاهدتُ هذه الفترة الفيلم الإيراني "زقزقة العصافير" للمخرج العظيم مجيد مجيدي، وهو مرتبط بكل التفاصيل الصغيرة للحياة ما بين الطفولة، والعمل، ومحاولات الفرح والبحث الدائم عن الأشياء، يحتفي الفيلم بموسيقى الحياة وارتباط المكان بوجوده في قلوبنا وعكس ذلك تماما، حين طرد الأب من عمله الذي ارتبط به روحيا وهو عمل الفقر في حقل النعام إلى أن هربت نعامة من بيت النعام فعوقب بطرده من العمل، فانتقل بعدها إلى محطة جديدة وهي الانتقال من حياة القرية لحياة المدينة، لكن الأطفال لم تكن تعنيهم كلّ هذه المظاهر، لم تكن تعنيهم الشعارات التي تدعو للرفاهية بقدر حساسيتهم وقابليتهم لحب أي مكان وأي شيء يناسب عيونهم الملونة.

... إنَّ أعظمَ درس يمكن أن نتعلمه من هذا الفيلم بشكل عام، ومن الأطفال فيه بشكل أكثر خصوصية، الاهتمام باللحظة الحاضرة لا بالقادم المجهول، اللحظة التي فيها الرقص والحياة والقابلية لتحويل الأشياء الباهتة لأشياء أكثر جمالا بعيدا عن الركض خلف الشكليات والماديات، ومثال على ذلك في الفيلم من المشهد الذي أصيب الأب بكسر في قدمه فُجبرت له، وكانت فرحة أطفاله تظهر بالرسم على هذا اللون الأبيض لتحويله إلى حقل وشجرة ونباتات ملونة، وهنا أيضا يظهر ارتباط الأطفال بالطبيعة لأنها أشياء بكر مثلهم، متمسكة بلحظتها الأزلية.

فهنا، وفي هذه الحياة يُمكننا أن نتعلم أجمل الأشياء من خلال الأطفال، عن طريق النظر بعيونهم الملونة.

وأخيرا:

((لو تكتمين سري لحدثتك...

عن جنة تركتها ورائي

عن هواي القديم في الريف...

والأحلام والأنس والمنى والرجاء

كم لجأنا إلى الشواطئ... نتروح في لذة عطور السماء))"1".

-----------------

"1"- (بدر شاكر السيّاب، عن الطفولة).

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك