رسائل رمضانيَّة (2)

عيسى الرَّواحي

الرسالة الخامسة: وقت الإنسان أثمن شيء لديه، وهو النعمة الكبرى التي تنضوي تحتها باقي النعم، والمسلم يُؤمن بأنَّه سيُسأل يوم القيامة عن عمره عامة، وفترة شبابه خاصة، ويُؤمن أيضا بأنَّ وقت رمضان أثمن الأوقات بأيامه ولياليه؛ فالنافلة فيه بفريضة، والفريضة بسبعين فريضة، وفيه ليلة فضلها خير من ألف شهر؛ لذا فحريٌّ به أن يستغل وقته، ويحرسه من الهدر والضياع، وإذا كان المسلم مطالبا بأن يصُوْن وقته في سائر الشهور والأيام، فإنَّ المطالبة أن يحفظه ويصونه في هذا الشهر أشد وأهم؛ لذا فمن الأهمية بمكان أن يكون لدى الصائم خطة مكتوبة وتنظيم واضح لوقته في رمضان، وجدولة الأوقات وكتابتها سبيلٌ -بإذن الله تعالى- إلى حسن استغلالها وتثميرها فيما يعود بالنفع والصلاح على المرء، ونكاد نتفق على أنَّ التخبط والعشوائية وعدم وضوح الهدف وغياب التخطيط والتنظيم هي أكبر الأسباب المضيِّعة للأوقات، وكلنا يعلم أنَّ أوقات رمضان تمرُّ سريعا فما يكاد يدخل الشهر الفضيل حتى يخرج، ويبقى السعيد الرابح من استغلَّ أوقاته ولياليه في عمل الخيرات والصالحات، والشقي من أضاعه وفرَّط فيه، وكم هو مُؤسف أن يضيِّع كثير من الناس أوقات رمضان أكثر من إضاعتهم أيَّ وقت آخر.

*****

الرسالة السادسة: شهرُ رمضان شهرُ القرآن؛ يقول الله تعالى:"شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون" (البقرة:185)، والاشتغالُ بالقرآن الكريم -تلاوةً، وتدبراً، وحفظاً، وتعلما، وتعليماً- مِن أجلِّ العبادات في هذا الشهر الفضيل، وقد وَرَد عن بعض السلف أنهم لا يشتغلون في رمضان بغير القرآن. وهُنا، لا بد أن نعلم أنه يجب علينا تعلم تلاوة القرآن بما آتانا الله من قدرة واستطاعة، ولا عذر لنا إلا بعذر يقبله الله"بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه" (القيامة:14-15)، ويقول الله تعالى: "... وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً" (المزمل:4)؛ ففي هذه الآية استدلَّ العلماء على وجوب قراءة القرآن على الوجه الصحيح السليم من الأخطاء والعيوب، وكم هي خسارة كبيرة في حقِّ المرء عندما يحرم نفسه من تعلم تلاوة القرآن وهي متاحة له، ويرضى بقراءته التي قد يكثر فيها الخطأ والتكسير. وهُنا، عَلينا أنْ نتذكر ونعمل بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".

وفي شأن القرآن الكريم أيضًا، عَلينا أن نتذكر أنَّنا مُطالبون بأن تكون تلاوتنا للقرآن الكريم تلاوة تدبُّر وتفكُّر؛ أي بحضور القلب وخشوعه وتأمُّل معانيه وتدبُّر آياته، وقد وَرَد عن بعض العلماء أنه يُحْرَم الأجر من قرأ القرآن من غير تدبُّر، وبلغ عن بعضهم القول بحُرمة قراءة القرآن من غير تدبُّر، ولم يُنزل الله القرآن إلا لنتدبره؛ يقول الله تعالى: "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب" (ص:29)، ويقول أيضا: "أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (محمد:24).

ولنحذر أشد الحذر، ولننتبه لأنفسنا أن ينطبق علينا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- "رُبَّ قارئ للقرآن والقرآن يلعنه"؛ أي: أن تخالف أفعالنا ما نتلوه من كتاب ربنا الذي جاء هداية للعالمين.

*****

الرسالة السابعة: الغاية من الصيام هي التقوى، يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون" (البقرة:183)، وهكذا سائر الفرائض والعبادات؛ فعلى الصائم أن يحرص ويسعى لتحقيق هذه الغاية من هذه العبادة العظيمة؛ لينال رضوان الله تعالى. والتقوى كما نعلم هي الزاد الذي ينفع المؤمن يوم القيامة، وهي الوصية التي يتواصى بها الأولون والآخرون، يقول الله تعالى: "... وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَاب" (البقرة:197)، وأكرم الناس عند الله هو التقي الذي امتثل أوامر الله واجتنب نواهيه، خالصا لوجه الله الكريم، يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير" (الحجرات:13)، والتقوى كما يُعرِّفها علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- "ﻫﻲ ﺍﻟﺨﻮﻑ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ، ﻭﺍﻟﻌﻤﻞ ﺑﺎﻟﺘﻨﺰﻳﻞ، ﻭﺍﻟرضا ﺑﺎﻟﻘﻠﻴﻞ، ﻭﺍلا‌ﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻟﻴﻮﻡ ﺍﻟﺮﺣﻴﻞ). أما ﻋُﻤﺮ ﺑﻦ ﻋﺒﺪﺍﻟﻌﺰﻳﺰ -رضي الله عنه- فيقول: "ﻟﻴﺲ ﺗﻘﻮﻯ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﺼﻴﺎﻡ ﺍﻟﻨﻬﺎﺭ ﻭﻻ‌ ﺑﻘﻴﺎﻡ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﺘﺨﻠﻴﻂ ﻓﻴﻤﺎﺑﻴﻦ ﺫﻟﻚ، ﻭﻟﻜﻦ ﺗﻘﻮﻯ ﺍﻟﻠﻪ ﺗَﺮْﻙ ﻣﺎ ﺣﺮَّﻡ ﺍﻟﻠﻪ، ﻭﺃﺩﺍﺀ ﻣﺎ ﺍﻓﺘﺮﺽ ﺍﻟﻠﻪ؛ ﻓﻤﻦ ﺭُﺯﻕ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚﺧﻴﺮﺍ ﻓﻬﻮ ﺧﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺧﻴﺮ".

*****

الرسالة الثامنة: الحكمة من الصيام هي الإحساس بنعمة الله تعالى علينا من مأكل ومشرب، والإحساس بمعاناة الفقراء والمساكين الذين يعانون الجوع والمسغبة في كثير من بقاع الدنيا؛ فعندما يشعر الصائم بالجوع، ويتذكَّر حينها نعمة الله عليه، ويشعر بمعاناة إخوانه في كثير من بلاد المسلمين بما يُعانونه من جُوع؛ فقد تحقَّقت حكمة الصيام، وحينها لا بد أن يُترجم هذا الشعور الإيماني والإحساس النبيل على أرض الواقع بأن يبذل وينفق ويتصدَّق مما آتاه الله تعالى على إخوانه الفقراء والمحتاجين، يقول الله تعالى: "مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون" (البقرة:262)، ولنا أن نتذكَّر قدوتنا ونبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- الذي كان أجود من الرِّيح المرسلة، وكان أجود ما يكون في رمضان.

تعليق عبر الفيس بوك