كلام في السياسة

أحمد الرحبي

تكادُ السياسة تلتصق بكل كبيرة وصغيرة في حياتنا العامة، ونجد الحماسة الكبيرة في تداول ومناقشة شؤونها في مجالسنا بفهم أو دون فهم.. يشترك في ذلك المتعلم والأمي، المثقف والجاهل، الموظف والمهني المتخصص في مجالها والحاصل على قسط من التعليم كلهم سواء في ذلك. وفي الوقت ذاته، تبتعد هذه السياسة التي هي بتعريف متفق عليه "فن الممكن" عن مستوى فهمنا ابتعادا غامضاً وعصياً عن التأويل والتفسير إلا فيما ندر من مظاهرها؛ فهي في فهمنا تلك اللعبة المحبوكة بعقدها الصعبة البعيدة عن مستوى إدراكنا العام والمتعذر علينا حل وفك أحابيلها والخروج على الأقل بذلك التفسير الذي يقترب وضوحاً ليشفي غليل أسئلتنا عن أصول اللعب وقوانينه الدائرة وفقه ممارسة لعبة السياسة في أصولها المتعارف عليها تلك التي يحتكم بشرعتها اللاعبون المشاركون فيها.

وإزاء الاستغلاق علينا الذي نواجهه لمعرفة مداخلها ما بالك بعالمها الداخلي أو ما تفضي إليه بعد ذلك من ظواهر هي على شكل أحداث مدوية وأسماء شخصيات تلمع في فترات وأخبار تخض الرأي العام بمفاجآتها نعاود مداولة أحاديثنا ومداخلاتنا الفقيرة عنها معلقين على حادثة هنا وحادثة هناك من حوادثها أو متلقفين خبرا هنا وخبرا هناك أولناه بخيال واسع من واقع جهلنا بالسياسة على أنه خبر سياسي له ما بعده.

وحتى إذا ضربنا صفحا عن جهل الشرائح العامة من المجتمع بما يسمى سياسة، وقلة الفهم لظواهرها؛ وهو الأمر الذي يمنعهم من مغادرة هذا الجهل بها، وجئنا لنقف على حال المختصين بها والذي بات موضوع السياسة يتسم لديهم بمثابة المهنية والاحتراف الذي يسوغ لهم الخوض في تفصيلاتها وجلي الغموض فيما يخص ببعض حوادثها وظواهرها وتوضيحه وشرحه على الملأ على صفحات الجرائد والمجلات وفي البرامج المباشرة في التليفزيونات والقنوات الفضائية، وجدنا هؤلاء النفر من المختصين في حديثهم المستفيض على ما سبق من الأحداث السياسية أو في التعليق على ما يحدث أو ما سيحدث منها، بعيدين عن التجرد في طرقهم للموضوع الذي هم بصدده، وهذه تعتبر أولى هنات الاختصاص لديهم ثم إنهم يدخلون في تناول الموضوع المطروح من مدخل انطباعي عاطفي بحت فتصبح جهود مساهمتهم منصبة على نصرة وإعلاء جانب سياسي دون آخر، والتمترس في جانب ضد جانب آخر؛ فيأتي إسهامهم في هذا المجال مجرد مرافعات حامية للدفاع عن معتقداتهم وما يؤمنون به ويناصرونه في موقفهم السياسية بما تتعلق بهذه المعتقدات التي يؤمنون بها، متوسلين في ذلك مفردات قاموس السياسة وبعض أدبياتها التي تفيض بها التجربة السياسية الدولية الناجزة على شكل تراكم ثرى منذ أوائل القرن التاسع عشر.

وقراءة في مجمل ما كتبه (الأستاذ) محمد حسنين هيكل مثلا، وهو الكاتب العربي الأبرز في هذا المجال مع ثراء في التجربة السياسية المعاشة التي عاصر فيها هيكل حقبة خصبة من الولادات لعدد من التجارب والأحداث السياسية المهمة على المستوى العربي والعالمي، نجده أنَّه ينحو على صعيد التناول الفكري السياسي في كتاباته ناحية الإلمام بها وتوثيقها بجهد المؤرخ السياسي وحسه، إلا أنَّ هذا الجهد الجبار من الإلمام والتوثيق في حقيقة الأمر شابه شيء من أثر إسقاط النظرة الذاتية للكاتب؛ بما أنه كان أحد الفرسان المشاركين في معمعة هذه التجارب، على مادة توثيقه فيما يخص بعضها بالذات، وهو الأمر الذي همس به الكثير من الكتاب والمؤرخين السياسيين في حق هيكل، مع أن الرجل والحق يقال قد أبلى بلاء حسناً في قراءة ظواهر هذه التجارب السياسية والمقدمات التي مهدت لها على المستوى الاجتماعي والاقتصادي بحيدة متجردة إلى حد ما من الأهواء والأحكام المسبقة، تفتقد إليها كتابات وأعمال كثير من معاصريه حول هذه التجارب نفسها.

وإذا كان يعرف عن الشعوب الغربية عزوفها عن الاهتمام والتفكير بالشأن السياسي عزوفا تاماً مقارنة بالاهتمام والشغف الذي تبديه شعوب العالم الثالث بشكل عام وتعيشه كهاجس يومي يرتبط ويدخل في تفاصيل حياتها العامة مع تأثر هذه الحياة بالمزاج السياسي المهيمن، بالسلب أو الإيجاب وفقا للحالة التي يؤدي إليها بالنتيجة هذا المزاج على المستوى العام؛ سواء في البلد الواحد أو في المنطقة الإقليمية الواحدة، فإن ذلك مرده إلى تكوين طبقة من السياسيين المحترفين في المجتمعات الغربية يضطلعون بشؤون السياسة ومناوراتها منذ وقت مبكر لتشكل هذه المجتمعات وازدهارها في ظل مفهوم العقد الاجتماعي الذي تشكل فيه السياسة المنظم لطاقات المجتمع والموجه لها ناحية الاستفادة من هذه الطاقات بما يخدم الشأن العام، بينما نجدُ السياسة بمفهومها الضيق في الوطن العربي وفي العالم الثالث بشكل عام، هو العمل على توسلها في طرح كلي مطلق يضيق بالاختلاف والتداول في الرأي حوله، مهما كانت درجة هذا الاختلاف والتداول، وصولا ـويا للمفارقةـ لتحقيق مكاسب فئوية قد ترتبط بإقليم سكاني عرقي أو فئة اجتماعية أو مذهبية دينية واحدة في منظومة البلد الواحد السكانية والعرقية والإثنية والدينية.

وحتى إذا حاولنا وصف السياسة على أنها إدارة الصراع على كيفية معينة حاذقة وذكية فيما يخص مسائل الحكم والقيام بمقتضيات الدور المتطلب منه لعبه في سوس المجتمع بطبقاته الاجتماعية وطوائفه، والاعتماد عليها (السياسة) في قيادة المجتمع بما يحافظ على استقراره الداخلي في وحدة واحدة جامعة شاملة، وتمثيله في الخارج بشرعية نابعة بما لا يقبل المساومة عليها أو الحط من شأنها أو تجاهل رموزها، من هذه المهمة القيادية لها في المجتمع ذاته، أقول حتى إذا حاولنا وصف السياسة بهذا الوضوح، فإنَّ عالمها الداخلي يبقى من الصعب علينا اكتناهه فهو منغلق على ذاته إذ لا يكاد يعكس صورة واضحة عن نفسه أو إعطاء صورة له أصلاً إلا بقدر ما يفرزه الصراع الدائر فيه من أصداء؛ تشكل في نهاية الأمر الشاغل الأهم للمجتمع والمؤثر على الوضع الاجتماعي في أي كيان أو نظام سياسي؛ لذلك يجب أن نخلص إلى أن ما تعودناه من متابعة واهتمام شغوف بالسياسة وأهلها، هو تمثل صورة السياسة الحقيقية الغائبة وتعويض لعدم إدراك صورة ملموسة واضحة لها في حياتنا تمثل عليها كتمثيل الشبه بالمشبه به في نطاق واضح دقيق لا يحتمل التوهم أو خداع البصر في ذلك.

تعليق عبر الفيس بوك