اقتصاد العالم في قبضة أمريكا بشراكة الباسيفيك والأطلسي

ناصر أبو عون

في مقالة سابقة بعنوان "الحروب القادمة إسلامية بامتياز" انتهينا إلى افتراض بحثي مبني على مُعطيات أشارت إليها بحوث العديد من مراكز الدراسات الغربية أمكننا إيجازها في العديد من (الفرضيات الفرعية) انطلاقًا من العديد من القناعات التي توصل إليها صانع ومخطط السياسة الأمريكية حيث انتهى إلى نقطتين غاية في الأهمية لم ينتبه إليها إلا قليل من قادة العالم وفي مقدمتهم (السلطان قابوس) وثلة قليلة من قيادات العالم الثالث ومازالت الأكثرية مشغولة بحروب داخلية وصراعات سياسية وأسيرة نظرية المؤامرة إلى أذنيها أو تسير مغمضة العينين في نفق (التبعية المظلم) دون رغبة في التفكير للخروج من المأزق الإقليمي والداخلي والقالب الذي صبّت نفسها فيه. في حين أن مخطط السياسة الأمريكية أيقن مبكرا أنه حان الوقت للاعتراف بأربعة مبادئ أشار إليها صمويل هنتنجتون في كتابه (صدام الحضارات) وضمَّنها بين سطور الكتاب وللأسف لم ينتبه إليها إلا قليل وهي:

المبدأ الأول: أيقن الأمريكيون بضرورة التخلي عن فكرة (أمركة العالم) والتحوّل إلى (أمركة الغرب) وآمنوا بأنّه لكي تبقى (أمريكا قوة عالمية أولى)، وتبقى (الحضارة الغربية متفوقة) لابد من التخلي عن (عالمية الثقافة الغربية).. لأن هذا التوجه (الاستعماري) يتطلب من الأمريكيين العودة إلى صيغة (الاحتلال العسكري المباشر للشعوب) وعواقب هذا التوجه وخيمة وتسارع بهزيمة النموذج الأمريكي مثلما حدث مع السوفيت في أفغانستان. كما إنّ هذا التوجه الاستعماري يتناقض مع الأعمدة الرئيسة للثقافة الغربية المتمثلة في (حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها).

المبدأ الثاني: أيقن الأمريكيون بأن فكرتي (الثنائية القطبية)، و(القطب الواحد) قد انتهت وأضحت غير مجدية ولابد من العودة إلى السُّنَّة الكونية؛ (سنة التدافع بين القوى) حتى لا يفسد الكون والتي أشارت إليها الكتب المقدسة ووردتْ في القرآن صراحةً في قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}، ومن ثَمَّ فلابد من إفساح المجال لعالم مُتعدد الحضارات.

المبدأ الثالث: لابد من إيجاد (كيان مركزي للحضارة الإسلامية)، أو (دولة إسلامية كبرى تتبنى مركزية الحضارة الإسلامية) لأن افتقاد الإسلام كديانة كبرى وأولى في العالم إلى دولة مركز واحدة يجعله مكانا للفوضى والنزاعات (داخليا وإقليميا وعالميا).

المبدأ الرابع: أيقن الأمريكيون أنه بفشل صناعة دولة إسلامية مركزية كبرى تلعب (دور المركز للحضارة الإسلامية) (شيعية، أو سنيّة) أو (دولتين إحداهما تقود السنة، والأخرى تقود الشيعة)؛ فإن ذلك سيمثل خطرا كبيرا على الحضارة الغربية وبالتالي ليس من حلّ إلا بإدخال الطرفين (السني والشيعي) في حرب ضروس تنهك قوى الطرفين وتجعلهما في تبعية كاملة للحضارة الغربية.

ويكون المبدأ الرابع قد بدأ تنفيذه خاصةً إذا ما وضعنا في الحسبان ما نشره موقع (ذي انترسيبت) في يوليو من عام 2014 على لسان (إداورد سنودين) العميل السابق لوكالة الأمن القومي الأمريكية ادعاءً بأن أجهزة الاستخبارات (الإسرائيلية والبريطانية والأمريكية) تعاونت في عملية مشتركة أطلقوا عليها (عش الدبابير) هدفها استقطاب المتطرفين من جميع أنحاء العالم إلى (العراق وبلاد الشام) وتكوين (فرقة إسلامية متشددة جديدة) بـ(شعارات إسلامية مبنية على أحكام متطرفة رافضة لكل المذاهب الإسلامية الأخرى) تحلُّ بديلا عن (تنظيم القاعدة) الذي استنفد أهدافه وتجاوزته الأحداث الراهنة. ليصحو العالم شرقه وغربه بين عشية وضحاها على رجل يعتلي منبر أحد المساجد العراقية يُدعى أبوبكر البغدادي معلنًا قيام دولة الخلافة الإسلامية في بلاد العراق والشام، أو ما يسمى اختصارًا بتنظيم (داعش).

وفي غمرة انشغال العالم العربي والإسلامي بموجة (الحروب العربية العربية)، و(الصراع بين الطوائف)، و(التصادم بين المذاهب) بدأت الولايات المتحدة في تنفيذ خطتها لتحويل (أمريكا) إلى (دولة مركزية غربية) انطلاقًا من (رؤية اقتصادية) تهدف إلى إمساك القبضة الأمريكية بالاقتصاد العالمي تكون فيها الولايات المتحدة (واسطة العقد) في شراكة اقتصادية بين (دول الأطلسي ودول الباسفيك) ومن ثَمَّ تصبح الولايات المتحدة الأمريكية (الاقتصاد الأكبر والأقوى) والشريك الأقوى الذي يسيطر على 70% من حجم الاقتصاد العالمي في ظل شراكة استراتيجية تمسك بأيدي اللاعبين الاقتصاديين الكبار في العالم بجناحيها المتمثلين في (دول الأطلسي)، و(دول الباسفيك) ومحاولة أمريكية لإحياء مشروع (قانون منرو)، واحتواء (دول البروكس)، وتنشيط الصداقة مع (دول مجلس التعاون الخليجي)، والتقارب مع (التنين الصيني).

ويرى الخبراء الاقتصاديون أنَّ اتفاقية (الشراكة الأطلسية) بمثابة حلف ناتو اقتصادي جديد سيُساعد في تحفيز النمو وخلق الوظائف. بينما اتفاقية (الشراكة الباسيفيكية) تمثل "صفقة القرن الحادي والعشرين" التي ليس لها نظير حتى الآن، والتي لا تشتمل فقط على التجارة التقليدية بالبضائع والخدمات، وإنما تتحكم أيضاً في الاستثمارات العابرة للحدود والملكية الفكرية والمشتريات الحكومية. وهي بمثابة مهمة دقيقة للولايات المتحدة تركز على "التمحور" حول آسيا، وتضم مجموعة من البلدان يشكل دخلها 40 في المائة من الدخل المحلي الإجمالي العالمي، وهي تشمل أستراليا واليابان وكندا والمكسيك وسنغافورة وفيتنام.

ولكن لماذا تسرع الولايات المتحدة الخطى لتنفيذ هذه الخطة الاقتصادية المثيرة للجدل؟ في الحقيقة أنّ الإجابة المحايدة حتى الآن ترى أنّ الأمريكيين والأوروبيين رأوا التوازن العالمي يميل بقوة لصالح آسيا - ولن تجد أوروبا سوى خيارات قليلة، - إن وجدت أي خيارات - لاستعادة نفوذها الاقتصادي والجيوسياسي.

في حين يرى أنصار نظرية المؤامرة أنّ الخطة الأمريكية للسيطرة على الاقتصاد العالمي وسوف تؤدي إلى اختلال عميق في النظام الدولي وإلى تعميق الطابع الأحادي لهذا النظام، وهو طابع يرتكز إلى (زواج كاثوليكي بين سلطان المال والقوة العسكرية)، وإلى (هيمنة أمريكية) واسعة النطاق على اقتصاد العام ومن ثَمَّ التحكم في سياساته.

وفي تصريحات أدلى بها لوكالة الأناضول، قال "هايديماري بروستنر" - عضو مؤسسة "جلوبال 2000" إحدى المؤسسات البيئية المسؤولة عن تنظيم التظاهرة - : "إن اتفاقيتي (TTIP)، و(CETA) في صالح الشركات العظمى، والخاسر هو الإنسان البسيط والبيئة"، مشيرًا إلى أنّهم اجتمعوا اليوم للاعتراض على هاتين الاتفاقيتين.

ويرى المعترضون أنّ الاتفاقية يمكن أن تهدد المعايير الصارمة لحماية البيئة والمستهلك في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ نظرًا لوجود بنود تسمح للمستثمرين والشركات باللجوء إلى القضاء للاعتراض على التشريعات والقواعد المحلية المنظمة لحماية البيئة والمستهلك.

وفي الحقيقة هناك (بنك أهداف مرحلية متوالية ومتتالية) - خلافاً للهدف الإستراتيجي الذي أشرنا إليه في عنوان المقال وبين سطوره - وضعته الولايات المتحدة الأمريكية للاستفادة من مشروعي (الشراكة الأطلسية ودول الباسفيك) قمنا برصد العديد من بنوده أهمها:

أولا - وضع التنين الصيني تحت الحصار الاقتصادي والعسكري.

ثانيًا - ردع روسيا حيث يشكل اتفاق الشراكة الاقتصادية مع دول الباسفيك وجانبي الأطلسي قوة محبطة للروس ومثبطة للأماني الروسية في استعادة (مجد الاتحاد السوفيتي سابقا) ومما يزيد قوة الإحباط ضغطًا على الدبّ الر وسي تنوّع الاستفزازات العسكرية التي تقوم بها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تجاه روسيا، بما في ذلك التعزيز العسكري لقوات الناتو على طول الحدود الروسية.

ثالثاً - اتفاقية الشراكة بين ضفتي الأطلسي للتجارة والاستثمار واتفاقية الشراكة بين ضفتي الباسيفيكي تشكلان جزءًا من الهجمة التي تقودها الولايات المتحدة على الصين وروسيا والتي تشكل شعوب العالم وقوداً لها.

رابعًا - من المرجح أن تعمل اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ - والتي بموجبها تؤسس الولايات المتحدة وإحدى عشرة دولة أخرى منطقة تجارة حرة إقليمية كبرى - على التعجيل بهذا التحول (وبوتيرة أسرع إذا انضمت الصين في نهاية المطاف).

خامسًا - تقدم اتفاقية الشراكة لأوروبا فرصا عظيمة تتمثل في وجود سوق على جانبي الأطلسي بدون حدود وبدون رسوم وتداول السلع داخلها وفقاً لمعايير مشتركة وضمان الاستثمار.

سادسًا - سوف تعطي الاتفاقية الأمريكية الأطلسية دفعة بقيمة 100 مليار دولار سنويًا لاقتصاد كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

سابعًا - تقليل اعتماد قطاع الطاقة الأوروبي على روسيا بشكل ملموس.

ثامنًا - سوف تؤدي الاتفاقية إلى تسريع التكامل الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي إلى جانب تعزيز دور الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في العالم اقتصاديا وجيوسياسيا. وكل ذلك نتيجة لفرض الغرب الجديد معاييره التجارية مما سيضعف مكانة القوى العالمية مثل الصين وروسيا والهند.

تاسعًا - الدفع قدمًا بدور حلف الناتو كمحور للأمن العالمي، وذلك بتعزيز الشراكات التي تأسست في أفغانستان، واستخدام طرق جديدة لتوطيد الأمن على أسس واسعة النطاق للغاية.

عاشرًا - تأهيل حلف الناتو للتدخل خارج أراضيه لمواجهة تبعات الدول الفاشلة كما جاء على لسان أمينه العام "هناك تحديات ومخاطر أمنية يواجهها الحلف، منها الدول الفاشلة، والإرهاب، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، والقرصنة، وأمن الطاقة". وهي الرؤية التي عززتها بعض الدراسات الأكاديمية الصادرة عن كلية الدفاع التابعة للحلف، ومؤداها أن فشل الدولة هو المرحلة التي تسبق انهيارها. ووفقاً لهذه الرؤية، "فإنّ اهتمام الناتو بمثل هذا النوع من الدول يتعين أن يكون سابقا ولاحقاً للانهيار والفشل.

تعليق عبر الفيس بوك