النار ليست في بيت الجيران

جمال القيسي

فلنعترف أكثر.. ولنكن على درجة من الصراحة كافية لاحترام أنفسنا وطريقة تفكيرنا، فلنعترف فنقول إنّ التمدد الجغرافي الكبير والهائل، والصعود السياسي المرعب والصادم للتنظيم المجنون الأعمى المتوحش البدائي، داعش، في وطنينا سوريا والعراق، بات لا يثير لدى الكثيرين منّا سوى القلق فقط! ولا يثير لدى البعض الآخر أكثر من صفق اليد بالأخرى والتحسر على سرقة الدين والإسلام الحنيف. ولنقل، بصراحة أيضا إنّ هذا القلق لا يخرج في بعده النفسي بوضوح عن غير أننا لا نقدّم، على المستوى الفعلي، لهذه الحالة العربية المهولة من الفنتازيا، سوى ما معناه "الله يستر"! ولنتابع الصراحة بشكل أعمق (من باب سد الذرائع، كل الذرائع، هذه المرة) بالقول إنّه كلما ارتفعت رايات داعش السوداء في مدن ومناطق جديدة، فإنّه لم يخرج رد الفعل لدينا عن غير دائرة العلو في وتيرة الدعاء لله بالستر أكثر وأكثر! فالأمر ينذر بالمصيبة ولا نملك سوى الشعور بالقلق!

أيّها القلق شكرًا لك فقد أعدتنا إلى جادة الدعاء إلى الله والتضرّع إليه بفضيلة الستر، وهو الأمر الذي يعني أننا فضحنا على نحو أو آخر.. أي أنّ ما يقع لنا كشف عورات خواصرنا الرخوة وتمترسنا الواهم بالأرض المباركة بمرابطة الأفذاذ الأشاوس! هيهات لما تدعون وتزعمون.

لا خلاف على أنّ الدعاء أسّ العبادة، وأصلها، وهو ما يستر وتستتر به علاقة العبد بربه، وهو الذي يقيس مقدار القرب من البعاد عن العلاقة الروحية السامية بالله. لكن ما يحدث حقيقة، دون مواربة، أنّ هذا العجز الذي أصابنا ما جاء إلا انعكاسًا وترجمة أمينة للمبدأ (إن كان مبدأ) الذي جرى سُنّةً على قلوب البشر، ومفاده: "فلتحترق البيوت جميعها.. وحتى بيت الجيران! على ألا تصل ألسنة اللهيب بيتي". هذه الحالة السلبية العقيمة الصلدة .. هو ذلك، بل هذا، التواطؤ النفسي الجمعي على القعود عن الواجب الإنساني والفعل الإيجابي وعدم الإحساس الحقيقي الجدي بكوارث ونكبات ألمّت بالجار وأحرقت بيته وكل ما لديه. هو مَثَل من الذاكرة الشعبية نعرف. لكن من منذ متى كذّب الواقع الصارخ بالحقيقة بكلّيته ما وقر في تجارب الناس واستقر حتى جرى على ألسنتهم مثلا! ولكن في المقابل الموجع فقد صارت تغيب عنّا وعن وجداننا الضميري الأصيل دلالات أمثال (شعبية أيضا)، تغيب وتنزوي في ركن قصي، بحكم تبدل الزمن، وتناقص منسوب الخير في النفوس. فقد مضى زمن باهٍ حقيقي كان يسير فيه الناس على هدى القول الدال على التلاحم، والشهامة والأخوّة وحسن الجوار: "ما دام جاري بخير أنا بخير".

وما ينطبق على الناس في علاقاتهم صار مثالا صارخا على علاقات الدول ببعضها، فقد كان الإرهاب نارا في بيت الجيران، وهذا شأنهم! أمّا حين صار الإرهاب يضرب عقر الدار فقط عند ذاك ارتفعت ردة الفعل إلى أكثر من القلق والدعاء بالستر، إلى استراتيجيات دولية ضالعة في السياسة ودعوات جادة لقراءة روربرت غرين و33 استراتيجية للحرب.. لله دركم حين تلجأون لروبرت غرين على حين غفلة من تبدل الجغرافيا التي تنصاع منذ فجر الأمم للتاريخ.

كيف لنا أن نفهم أصل العنف وجذوره ووواقع الدولة الحديثة المعاصرة التي صار ينازعها ويهدد وجودها، ويكاد يفنيها، تنظيم مستبد يوشك على الاتيان عليها وعلى ما حققته عبر حقب طويلة من الصراع والنضال والتراكم الزمني في المجالات كافة، ليس أقلّها تحول الدولة من مجاميع سكانية إلى أنظمة وأشكال حكم، وبغض النظر عن كل النقد حول هذه أو تلك الأنظمة متدرجة المدنية أو التخلف. لأنّها ولكنها الدولة بالنتيجة.

أنّى لنا التوصّل إلى نعمة روح الدين بعد أن تلخّص الدين نفسه في جماعات لا تفقه من الدين سوى الإفناء والقتل والإبادة، ولا تقبل غير اللا عقلانية الطبيعية إلا أن تكون السلطة المستبدة؟

يا قوم، الأمر جلل.. والنار ليست في بيت الجيران!

تعليق عبر الفيس بوك