الموظف الذي أكل إوَزَّة ونام في البـرزة

ناصر أبو عون

عزيزي القارئ هل ما زلتَ متذكرًا وعدي لك في مقالة سابقة بأن أحكي لك قصة (الحمامة التي باضت في طريق الفيل)؟! .. لاشك أنّك أكثر وعيًا مني لذا أستميحك عذرا عملا بالحديث النبوي الوارد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ : " إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" ولأن القضية التي ناقشتها في متن المقال أنستني أن أحكي لك القصة في نهايته. ولأنّ (وعد الحر دَيْنُ عليه) فأصبح لزامًا عليَّ أن أقصَّ عليك الحكاية هذه المرة بلا تسويف أو تزييف.. ولكن ما رأيك في أن تترك لي نفسك وتسمح لي بالعزف المنفرد على وتر (الطمع) بداخلك - وهي صفة إنسانية كلُ منِّا وَرِثَ نصيبًا منها - و دَعْنِي أساومك .. لماذا تبخل على نفسك وتتعجّل رزقك، وتسمع قصة واحدةً. الآن يمكنك أن تحصل على (قصتين) بدلاً من قصة واحدة؛ (قصة الحمامة التي باضت في طريق الفيل، وقصة الموظف الذي أكل الإوزّة ونام في البرزة) وشرطي الوحيد عليك لأمنحك هذه الحكايات مجانًا (أن تتعبَ نفسك قليلاً في البحث عن القصتين بين سطور المقال، وفي زوايا الفقرات، وفواصل العبارات).

صديقي القارئ قد يكون العنوان غريبًا ومستفزًا، ولكن موظفي (العالم الثالث) أكثر استفزازًا فالراتب الذي هو في أصله (أُجرة) نظير عمل صار بين عشيةٍ، وضحاها في عُرْفهم (مِنْحَة). والحقيقة أنَّ ثلةً من موظفي مؤسساتنا الحكومية والخاصة تحوّلوا إلى (عبء)، و(لوبي) و(مِحْنَة).

وتحوّل مفهوم (التوظيف) إلى (خدةٍ وتشريف)، تحت بند (ديمومة طفولة الموظف وأبوية الدولة)، وزادت الأحوال سوءًا بدخول مواطني الدول الفقيرة في حالة (بيات شتوي طويل)، و(إعالة مستدامة أشد طولاً) في عصر الاضطرابات والفتن والصراعات.

كما ذهب عصر (توظيف المواطن تكليف) بلا رجعة، وتَبَدَّلت بعده العديد من المفاهيم وأضحى مفهوم (المساواة بين العاملين) في دول العالم النامية والفقيرة إلى شيء مُهين، ومُشين؛ وصارَ عَلْكَة يمضغها الموظفون المطحونون بين فكَّي (فقر الحكومة، وتدني معدلات الدخل الوطني).

وظهرت بل ابتُدِعتْ مصطلحات جديدة أهمها على الإطلاق (دعابة، وخيابة) مقولة: (المساواة في الظلم عدل). بينما في الدول الأكثر ثراءً من (عالمنا الثالث)، والتي تملك (صناديق سياديّة)، و(عائدات دولارية) تهبط من السماء، وتُطَوِّحُها نوافيرُ الأرض تحوّل مفهوم (المساواة) إلى (بَغْدَدَةٍ)، و(بَقْشَشَةٍ)، و(مكافأة) يتساوى فيها (الحاذقون الماهرون)، مع (المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع).

وليت الأمر انتهى عند هذا الحد؛ بل تجاوز كل الحدود، والإشارات الحمراء والخضراء، والصفراء، وخطوط الطول، والعرض ليصل الوضع بعدها إلى مرحلة متأخرة يستحيل معها العلاج لهذا (السرطان الإداري) قد نبدأ بعدها مباشرةً في (لطم الخدود)، والعودة إلى (عصر القرود)؛ حيث تفتقد (غالبية) مؤسساتنا الحكومية والخاصة في بلادنا العربية والإسلامية، إلى تطبيق الحد الأدنى من (مواثيق الشرف الأخلاقية)، وبلا استثناء وإذا ما سألت الرؤساء والمرؤوسين عن (ميثاق الشرف الأخلاقي) للمهنة والمؤسسة. كانت الإجابة إمّا (اندهاشة خضراء)، أو (بشاشة صفراء) أو قالوا لك (ادعُ ربَّ السماء).

ولا شك أنَّ المصاب أعظم بافتقاد معظم مؤسساتنا الحكومية، والخاصة إلى (دليل ممارسة المهنة)، و(دليل إجراءات العمل)، و(معايير الجودة الإدارية)، و(لائحة التدريب والتأهيل) ولا أثر على الإطلاق لأيَّة (مواثيق إدارية) فهي (لا موضوعة ولا مكتوبة)، وإنْ كانت (موجودة) فلم تدخل بعدُ حيز التنفيذ وأضحت مجرد (صورة ديكورية) لزوم (الدعاية والانتماء لعصر الحداثة).

بل أضحت القضية أدهى، وأمرّ مع بروز العديد من الظواهر الوظيفية والتي اشتدَّت وطأتها مع دخول دولنا العربية والإسلامية في (منظومة الحكومة الإلكترونية)، برزت هذه الظواهر مصحوبة بإشكاليات (غير أخلاقية) والتكنولوجيا بريئة منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب فقد شاهدنا شرًّا، وشررًا مستطيرًا يتناثر في مجتمعاتنا باستخدام أجهزة الحواسيب كمنصات إطلاق صواريخ من الكذب وانتهاك خصوصية الأفراد والمؤسسات وجرأة من بعض الموظفين لم نعهد له مثيلا بإقدامهم على تسريب المعلومات (صوتية، وكتابية، ومخطوطات، وأسطوانات مدمجة) دون وازع من رقيب خارجي (قانوني)، أو داخلي (ضمير إنساني) وهذا الأخير أضحى في عصر تقنية المعلومات قابلا (للمطّ، والشدّ، والإطالة، والاختصار، والبيع) والمقابل يبدأ من (وجبة دسمة) في أرقى الفنادق العالمية أو على طاولةٍ بركن معتم في أحد مطاعم الوجبات السريعة انتهاءً بـ(حقيبة دولارات)؛ كلُ حسب مقاس ونوع الزبون المشتري. ولهذه العادة الدخيلة على بلادنا وأعرافنا تاريخ وحكاية ففي أثناء الحرب العالمية الثانية تمكنت (قوات الحلفاء) من القبض على (جاسوس) يعمل لحساب الألمان وهو موظف كبير في الحكومة البريطانية.. لكنهم لم يعرفوا كيف كان يُسرِّب الأسرار !.. وكانت وظيفة هذا الجاسوس تنحصر في رئاسة لجنة اختبار، واختيار الموظفين للعمل بالحكومة البريطانية). وبعد تحقيقات مطوّلة معه تبيَّن أن الألمان طلبوا منه فقط (وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب!!).

ومن لجج الجهل التي نسبح فيها ليل نهار أنّ دولاب العمل الوظيفي في مؤسسات العالم الثالث وترسانته الضخمة من الموظفين لم يستطع حتى الآن أن ينشر ثقافة (أمن المعلومات)، ويقولب منتسبيه، وموظفيه ومريديه (قانونياً) بأنّ يشرح لهم في إطار (الثقافة العُمالية) الفروقات الكبرى بين (تمكين المواطن/ الموظف من المعلومات)، و(حق المواطن/ الموظف في نشر المعلومات) في إطار ما يسمح به القانون، والذي يعتبر حقًا من حقوق الإنسان العالمية.

ورغم أنّ مؤسساتنا تنفق ملايين الدولارات على تدريب وتأهيل الموظف إلا أنّ هناك ثُلة من الموظفين لا تأبه بالقانون، ولا ترتدع بالأعراف والتقاليد وتُقْدِم على (تسريب وثائق) تعتبر بمثابة أسرار داخلية؛ تتعلّق بالدولة ومؤسساتها الاستراتيجية، أو تهم الحياة الشخصية للأفراد. وكأنَّ هؤلاء العابثين في سباق (تفحيط للسيارات)، يستحق الفرجة والإشادة والتصفيق.

وأنّ ما نشاهده عبر مواقع التواصل الاجتماعي من تعريض بمقامات الناس والتعريض بسمعة المؤسسات، والشركات، والخروج على القانون والتبجح أحيانًا بنشر الأكاذيب، والخلط بين الكوميديا، والحقائق، وإضافة (البهارات التشويقية) ليس إلا مجرد (سباق افتراضي) لجذب صغار العقول من هواة ترويج الإشاعة من ألفاظ وحيل وخدع سينمائية وقص ولصق أكاذيب والتفنن في إجراء عمليات مونتاج غير احترافية للكثير من النصوص والأوراق الثبوتية والمستندات المزيفة ووضع خطوط حمراء وتسليط الضوء على بعض العبارات، والقرارات، والتوقيعات ليبدو الأمر للمشاهد من الوهلة الأولى صادقاً ويلهه عن التمعن فيما هو منشور ليقع في نهاية المطاف ضحية للخدع البصرية وغائصاً إلى أذنيه في شبكة الأكاذيب التي نصبها له الحاقدون، والمتنطِّعون، والفارغون الأكثر ضجيجا الذين يؤمنون بمبدأ إعلامي ظلامي يقول: (اكذِبْ ثم اكذِبْ وواصل الكذب حتى يصدقك البلهاء من الناس وما أكثرهم.)

والحقيقة أنّ سلطنة عُمان من أوائل الدول العربية التي نجحت في وضع قوانين صارمة وشفّافة لمحاسبة مرتكبي الجرائم الإلكترونية وجرائم المعلومات، وهناك مواد قانونية تضع (المدونين)، و(الغاوين)، و(المستهينين) بنشر المستندات، و(المتباهين) بـ(إفشاء أسرار المؤسسات) تحت طائلة القانون، حال قيامهم بترويج ونشر المستندات عبر وسائل الاتصال المختلفة، ومن أهم المواد القانونية التي تعالج هذه القضية في سلطنة عُمان المادة 104 من قانون الخدمة المدنية بالفقرة (ب) والتي تحظر على الموظف المنتسب للمؤسسة إفشاء أسرار العمل. ومن قبل ظهور قانون الخدمة المدنية جاء قانون الجزاء الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (7/74) ليؤكد على حماية الأسرار الوظيفية بموجب المادة (164) ، وتأكدت هذه الحماية بالمادة (26) من قانون المطبوعات والنشر الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (49/84) وذلك بموجب التعديل رقم (95/2011) الذي تمَّ فيه استبدال المادة (26) ليشمل الحظر نشر أية وثائق أو معلومات أو أخبار أو اتصالات رسمية سرية سواء أكان النشر من خلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة أو من خلال استخدام الشبكة المعلوماتية أو وسيلة من وسائل تقنية المعلومات.

ومن ثَمَّ فإننا نطالب بحرية تداول الوثائق ولكن في إطار قانوني وبما يحقق التوازن بين شفافية الإدارة والحفاظ على السر المهني الذي يمكِّن الجميع (الدولة والمواطنين) من تحقيق الاستقرار، والأمن لفائدة المجتمع والذي لا يمكن أن يتحقق في بعض الحالات إلا من خلال حماية المعلومات العامة. وإذا ما تركنا الأمور تسير طبقاً للأهواء وخوفًا من الانجرار إلى الفتنة وعملاً بقول (السكوت من ذهب)، وتطبيق حكمة: (الصمت والزمن كفيلان بإسكات المعتدين وإظهار الحقائق للشامتين)، وما يتبع هذه الحكمة من (طَبْطَبَة)، ومعاملة بالحسنى سيشب جيل من الموظفين على (ما كان عوَّده مديره) الذي لا يستخدم القانون في ردعه، ويخشاه ويشتري سكوته خوفًا من (لؤمه) بدسّ اسمه في قوائم المكافآت (خوفًا وطمعًا) في (نيل رضاه). والمصاب أعظم عندما نشاهد هذا المدير أو ذاك يُدرِّب نفسه على (فضيلة السكات) خشية التعريض بشخصه ومنصبه للقيل، والقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال.

Nasser_oon@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك