جوخة الحارثية: المجتمع والتاريخ والخيال خلطة سحرية تؤدي إلى الإلهام الأزلي

- جدي الشاعر كان لا يفرق بين الجنسين في حضور مجالس الأدب

اخترعت قصصًا لأطفالي بعد أن نضب معين ما أحفظه من حكايات

- الشعر ينصب للشاعر فخ استعارة أصوات غيره من الشعراء

"طواف حيث الجمر".. عمل ناضج إذا ما قُرئ وفق إطاره الزمني والتاريخي

"لا أستطيع تصور الحياة بلا أدب".. هكذا ابتدرت الكاتبة والأديبة جوخة بنت محمد الحارثية حديثها معي.. ولا غرابة في ذلك إن علمنا أنّ الحارثية نشأت في بيئة تحيط بها الكتب من كل جانب، فقد نشأت في كنف أسرة متعلمة تملك مكتبة ضخمة، فضلا عن أن جدها كان شاعرًا ووالداها كانا مهتمين بالأدب والقراءة؛ مماأوجد عندها نهم الفضول المعرفي، الأمر الذي دفعها لأن تنكب على كتب الأدب وتنهل من مختلف ضروبه وفنونه المقفاة والسردية منذ بواكير الصبا.. كَلُفت الحارثيّة بالأدب فعمدت إلى الانخراط فيه والدخول إلى بستانه عبر بوابة دراسة الأدب والتخصص فيه.. فسارت على بساط العلم وكان لها ما أرادت، حتى صارت بتوفيق من العلي القدير وفضله باحثة وأكاديمية..

وتشغل جوخة الحارثية الآن كرسي أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية بجامعة السلطان قابوس.. جلسنا إليها لنقطف بعضًا من أزاهير الأدب.. وخرجنا منها بالحصيلة التالية:

حاورتها- موزة الريامية

· حدثينا عن بداياتك ككاتبة؟

نشأت في أسرة علمية، فجدي كان شاعرًا و والدي ووالدتي كلاهما مهتم بالأدب والقراءة فهذا أثر في نشأتي إذ أنني نشأت في بيت به مكتبة ضخمة، فكنت أقرأ وأنا صغيرة جدًا دواوين الشعراء الكلاسيكيين ولكبار الشعراء، ففي كل مراحل حياتي كان الأدب جزءًا لا يتجزأ من الحياة، وكنت في كل مرحلة لا أتصور أن تكون الحياة منفصلة عن الأدب حتى عندما كنت صغيرة، لذلك عندما بدأت أكتب بدأ وكأن هذا هو الشيء الطبيعي المقدر لي أن أفعله، وهو أن تمتزج الحياة بالكتابة وبالفكر وبالإبداع، فكتبت شعرا لم يرضني، ثم بدأت أكتب قصصا قصيرة ونشرت أول مجموعة في 1999 هي (مقاطع من سيرة لبنى إذ آن الرحيل).

· إذًا بداية النشر كانت من القصص؟

أجل، ثمّ نشرت أول رواية في عام 2004 وهي رواية (منامات).

· كيف واتتك فكرة رواية منامات بما أنّها أول رواية لك؟

كنت أفكر فيها لفترة وعندما بدأت في كتابتها وجدت أنّ الأفكار تتطور أثناء الكتابة وأنّ هناك أفكارا جديدة وشخصيات جديدة تطرأ أثناء الكتابة فتطورت وتشكلت أثناء عملية الكتابة نفسها.

· كما نعلم أن رواية النساء بدأت متأخرة في عُمان وكانت أول رواية قد ظهرت بقلم نسائي هي (طواف حيث الجمر) للكاتبة بدرية الشحي. ما رأيك في هذه الرواية؟

عمل جيد وناضج خاصة إذا نظرنا إليه في إطاره الزمني والتاريخي باعتباره عمل ريادي فهو أول رواية عمانية.

· بالنسبة لديوان أبي الحكم الذي صدر مؤخرًا، كيف جاءتك فكرة جمعه وتحقيقه؟

عندما توفي جدي كنت تقريبًا في السادسة عشرة من عمري، فأنا أذكره جيدًا وكنت أزوره في بيته، وكان شاعرًا بكل معنى الكلمة فقد كان شخصًا مولعًا بالشعر، وكان يقول معظم كلامه عن طريق الشعر، وكان يشرك بناته في مجالس الشعر ولا يفرق بين ذكر وأنثى في حضور مجالس الأدب، فأنا رأيت هذا الجو العلمي وعرفت أنّ لديه عشرات القصائد لكن بسبب طبيعته المزاجية ولكونه شخصية سريعة الملل وبسبب انشغاله بظروف الحياة السياسية لم يكن يعتني بجمع هذا الشعر أو إصداره في ديوان، فكانت الكثير من قصائده ما تزال مسودات بحاجة للمراجعة، بعض القصائد كانت قصائد رثاء أعطاها أبناء المرثي ونسيها وليست لديه نسخ منها، فقد كان يكتب القصيدة أو يكتبها أحد أبنائه أو تلامذته ويعطيها للناس الذين رثى لهم ميتًا وينساها وهكذا، وكان أيضًا يكتب خمسة أبيات أو عشرة ثم يضعها في الدرج وينساها، فلم يكن معتنيا بأن يجمع هذا الشعر، لذلك عندما توفي جدي أحسست بالخسارة، لأنّ كل هذا التراث الكثير ضاع، صحيح أنّ المجتمع الثقافي كان يعرفه وكان يلقب بشاعر الشرق وله قصائد في الخيليات مشهورة لكن لم يكن له ديوان مع أنّه كان صديقًا حميمًا للشاعر عبدالله الخليلي، وكانت بينهما مراسلات ومعارضات كثيرة جدًا، لكن الناس تعرف عبدالله الخليلي لأنّه نشر دواوين في حياته بينما جدي لم ينشر شعره، فكانت معي بذرة الفكرة ولكنني كنت مشغولة بالدراسة ولكن بعد أن أكملت البكالوريوس وبدأت في الماجستير بدأت في جمع ديوان جدي ولكنني انشغلت بموضوع آخر في الماجستر ثم بموضوع آخر في الدكتوراة، في أثناء هذه الفترة كنت أجمع المخطوطات من مكتبته وأصدقائه ومن الناس الذين كان يعرفهم وأبناء الذين رثاهم ومن الجرائد القديمة لأنّه كان ينشر شعره في جرائد ومجلات قديمة خاصة مجلة الغدير، فكنت أجمع كل هذه المسودات واحتفظ بها لأنّ لدي الفكرة بأنني في يومٍ ما سأعمل عليها.

· ما هي أبرز الصعوبات والتحديات التي واجهتك أثناء العمل على الكتاب؟

هناك صعوبات بأنواع مختلفة، أولا صعوبة الجمع لأنّه مهما اجتهد المحقق في جمع شعر الشاعر فلن يستطيع أن يفعل هذا فما تزال هناك قصائد مفقودة، إما أنها في أيدي أناس لم أستطع الوصول إليها وإما أن تكون قد نُشِرت في أماكن لم أتمكن من الوصول إليها، لأنه لا يوجد لدينا أرشيف إلكتروني يؤرشف كل هذه المادة، لكن الصعوبة الأكبر من صعوبة الجمع هي صعوبة تنقيح وتحقيق وقراءة هذه القصائد، لأنّ بعضها كما أسلفت ما زال في مرحلة المخطوطات، فعلى سبيل المثال، الشاعر قال قصيدة وأنشدها في بيت العزاء على حسب عادة الشعراء القدامى، بعد ذلك يأتي أهل الميت ويطبعون القصيدة وينسخونها، وبعد فترة جدي يفكر بنشر هذه القصيدة في مجلة، فيغيّر بعض الأبيات وبعض الكلمات وينشر القصيدة فتصبح هناك عدة نسخ للقصيدة الواحدة ولا يمكن الجزم أي منها هي الأخيرة التي استقر عليها لأنّ حتى النسخ المنشورة يطالها أحيانًا بعض التعديل بعد النشر، فأصبحت في مشكلة لأنّ هناك قصائد في طور المسودات وهناك قصائد بخطوط غير واضحة وهناك قصائد غير مكتملة وقصائد في طورها الأول، وتوجد عدة اقتراحات مختلفة للقافية، وأيضًا لأنني لابد أن أحل مشاكل النسخ فبعض الذين نسخوا القصائد ليس لديهم علم كثير بالقافية أو الوزن أو اللغة فهناك بعض الأخطاء ليس الشاعر مصدرها وإنما الذي نسخ هذه القصائد، فلا بد من حل هذه المشاكل قبل أن يخرج الديوان.

· من هم الكتّاب الذين تأثرت بهم؟

لا استطيع أن أحدد اسم كاتب بعينه لأنّ عدد الذين أًعجب بهم وأثروا بي في الآداب العالمية وليس العربية فقط كثير، فأنا أقرأ لهم جميعًا وبتنوع دون أن أشعر بأنّ هناك كاتبا بعينه يؤثر عليّ بشكل خاص.

· ما مصدر إلهام جوخة الحارثية؟

يمكن أن أفكر في المجتمع والتاريخ وعلاقات الناس المعقدة والخيال والكتابات العالمية باعتبارها كلها خلطة سحرية تؤدي إلى الإلهام.

· لقد كتبت للأطفال قصة "عش للعصافير"، كيف كانت هذه التجربة باعتبارها أول قصة تكتبينها للأطفال؟

لم أكن أفكر في الكتابة للأطفال من قبل وكنت دائمًا أشعر أنّه مجال صعب وهو صعب فعلا، لكن عندما أصبح لديّ أطفال وجدت نفسي في دور الأمهات التقليدي أسرد لأطفالي القصص وكل القصص التي أحفظها لا تكفيهم فاضطررت لأن اخترع قصصًا، وبعض هذه القصص تظل مجرد أفكار وبعضها يتطور وتصبح قصة حقيقية أي تصلح أن تكون قصة، وهذا ما حدث مع قصة عش للعصافير حيث تطورت وأصبحت قصة فابني لا يحب أن يقص شعره فكان هو الملهم لهذه القصة.

ما الذي دفعك لاختيار اسم عبيد لبطل القصة؟

اسم عبيد اسم عماني جميل وأحسست أنّه ملائم للشخصية، والحقيقة أن اختيار الأسماء حتى في الروايات والقصص ليس بالضرورة أن يكون مرتبطًا بسبب يعرفه الكاتب، ففي الكثير من الأحيان الكاتب يشعر بأنّ هذه الشخصية يليق بها هذا الاسم دون أن يعرف عقليًا لماذا اختار هذا الاختيار ودون أن يكون يبني ذلك وفق أسس منطقيّة، فأنا في هذه القصة كما في قصص الكبار أحسست أنّ اسم عبيد لائق بهذا الطفل الذي لا يريد أن يقص شعره.

· ألم تفكري بالاتجاه نحو الشِّعر؟

كانت لي تجارب بسيطة في الشعر لكن وجدت أنّ التزييف في الشعر سهل، ويمكن بسهولة أن يقع الشاعر في فخ استعارة أصوات غيره، فلم أشأ أن أستمر في هذا الجانب ووجدت أنّ السرد يليق بي أكثر، بينما ما زلت أحب حتى الآن أن أقرأ الشعر ومازلت استمتع بقراءته سواء كان شعرًا حديثًا أو كلاسيكيًا، ولم انقطع أبدًا عن قراءة الشعر وتذوقه.

· - مقاطعة - وأي المجالين تحبين وتميلين إلى الكتابة فيه أكثر.. القصص أم الروايات؟

أميل أكثر لكتابة الروايات.

لِمَ الروايات دون القصص؟

أصبحت أجد نفسي في الرواية أكثر، لأنّها تعطي مساحة أوسع للكاتب.

كيف توفقين بين عملك في الجامعة وبين كونك أديبة؟

من الناحية المنطقية ليس هناك تعارض، لأنني أدرِّس الأدب أي أنني أدرِّس شيئا أحبه، فالتدريس بالنسبة لي هو نوع من الشغف بالأدب فأنا أحس بالأشياء التي أدرسها وأتذوقها، وإنّما التعارض في الوقت، لأنّ الأدب يحتاج لتكريس والإبداع يحتاج لتكريس والتدريس وما يتطلب من تحضير يحتاج لتكريس، فهنا الصعوبة لأنّ التدريس وحش يلتهم الوقت بشكل كبير جدًا.

كيف ترين المجال الروائي والقصصي في الأدب العماني؟

في تطور مستمر.

· وماذا عن الكُتَّاب؟

برأيي أنّهم يتطورون ويطورون أدواتهم، وبالنسبة لي أرى أنّ الوضع مبشّر.

· هل تتوقعين أن يكون لدينا في المستقبل كم هائل من الآداب؟

ليس المهم هو الكم الهائل ولكن المهم هو النوعية، أتوقع أن هذا الكم سيفرز نوعًا جيدًا.

· أخيرًا.. ما جديد جوخة الحارثية؟

لديّ قصة في المطبعة ستخرج قريبًا اسمها (السحابة تتمنى) وآمل أن تخرج خلال شهرين، وأنا أعتز بها كثيرًا لأنّ طالباتي رسمنها، فأنا أدرّس مادة أدب الطفل والتي من ضمن تكاليفها تصميم قصة للأطفال.

تعليق عبر الفيس بوك