نقد الحال الراهن (12) "التملّك"

د. صالح الفهدي

أفْرط في السؤالِ عن موظفاتهِ الثلاثِ حيثما ذهبن حتى بلغ المرض المفرط، فصار أقصوصة الألسنِ تتناقلها وهي تضرب المثل في مرضِ التملّك الذي تفشّى في هذا المسؤول، حتى رفعت عليهِ الموظفات شكوى للإدارة العليا التي وضعت حدّاً لأنانيتهِ المفرطة، وملاحقتهِ السّمجة!

لقد فطر الإنسان على غريزة التملًّكِ، فهي نزعةٌ لديهِ منذ أن يُولد؛ حيث ترى الطِّفل وهو يتشبّث بالأشياء في دلالةٍ على التملًّكِ، ثم يكبر فتنمو هذه الغريزةٌ فيه "وتحبون المال حبا جما" (الفجر:20)، إنّما أن تتحوّل هذه الغريزة إلى أنانيةٍ طاغيةٍ، ونزعةٍ مفرطةٍ فذلك مرضٌ مشينٌ، يخلّ بكيانِ شخصيّتهِ، ويهزّ مقوّماتِ أخلاقه!

ففي مجتمعاتنا يُصاب البعض بمرضِ التملّك حين يتولّى وظيفةً نافذةً، فإذا بالمؤسسةِ أجمعها تصبح -في شعوره المتعالي- ملكاً له، يتصرّف كما يشاء بأنانيةٍ مجحفةٍ، ويشطح كما يريد بأثرةٍ مسرفة، فإذا به يرى الموظفون "عمّالاً" يحسبهم يعيشون على نفحةِ مالهِ، وإنعامِ جيبهِ، فهو السّيد الجواد الذي لا يعلى على أمرهِ، وهو المالك المطاع الذي لا يهان قدره، فإذا بأنانيةِ التملّكِ تنقلب إلى تسلّطٍ واستبدادٍ، فويلٌ لكلّ من يلقي الرأي المناهض، وويلٌ لكل من يهزّ الرأس المعارض، إذ لا مكان له في "مؤسسته" ولا وجود له في محيطهِ، ومهما طالت الأيّام به في تلك المؤسسة فكلّها نكدٌ وعذابات لأنه مخذولٌ في كلِّ أمرٍ، مهانٌ في أصغرِ شأنٍ لأنّه تعدّى على صاحبِ الشعورِ الأسمى، والذاتِ العليا، فخالف وجانف..! أمّا من يتحبّب ويتودّد، ويلاطف ويلاين فذلك المحبوب المقرّب، المغنّى بسيرتهِ في كلِّ مشرقٍ ومغرب..! إنَّ لجلالةِ السلطان قابوس -حفظه الله- أقوالاً مأثورةً، وحكماً منثورة؛ منها قوله: "وعليهم أن يؤدوا هذه الخدمة بكل إخلاص، وأن يتجرّدوا ‏من جميع الأنانيات، وأن تكون مصلحة الأمة قبل أي مصلحة شخصية"، وقوله: "إنَّ الوظيفة تكليف ومسؤولية قبل أن ‏تكون نفوذاً وسلطة". ونتيجةً لمرضِ السلطةِ والأنانيةِ المفرطةِ تُقصى كفاءاتٌ، وتضيع قياداتٌ، فيكون الوطن هو الخاسر الأكبر، تلبيةً لنفسٍ أنانيةٍ، ضيّقةِ الأفقِ، لم تر في اتساعِ الوطنِ، وسماحةِ روحهِ مثلاً لشموخِ النفس، وسماحةِ الخاطرِ، ورفعةِ الغاية.

... إنَّ كثيراً من التأجيلِ والتعطيلِ والتأخيرِ في مصالحِ الناسِ، وشؤون حياتهم سببه الشعور بالتملّكِ للوظيفةِ، والاستئثار بها، فإن غاب جمُد كل شيءٍ، وإن حضر كبح غيره عن الاطلاع على أيّةِ معلومةٍ، أو معرفةٍ تتعلق بوظيفته، لأنّه يرى بنفسه المريضة أن كل "تفريطٍ" في المعلومةِ، وكل سماحٍ في الاطلاعِ إنّما يضعف مكانته، ويقوّض كرسيهِ، ويقللّ من أهميته، لهذا فلا ضير أن يتأخر البشر في مصالحهم، ولا بأس أن تتوقف مسيرة وطنٍ بأكمله!

وفي مجتمعاتنا، يحسب بعض الناسِ أن الزوجة هي "ملكٌ" شخصي للزوجِ، فهي طيّعةٌ له كيفما يشاء، وأنّى يريد، فلا أصل للعلاقةِ الكامنة في "المودة والرّحمة" وإنّما تدفعه أنانيته التي نتجت عن شعورهِ بالتملّكِ إلى الاستبدادِ بها، واعتبارها "ملكيّةً شخصيّة" يجوز له التصرّف في أموالها، فتضيع من هذا الشططِ حكمة العلاقة المقدّسة الرفيعة. يروى الدكتور جاسم المطوّع هذه القصّة: "أحد الأزواج منع زوجته من زيارة أبيها المريض بالمستشفى لمدة أربعة أشهر حتى توفاه الله، فأصيبت زوجته بصدمةٍ نفسيةٍ وظل يتنقل في علاجها من طبيب إلى طبيب، والسبب في ذلك كله فهمه الخاطئ لمعنى القوامة، على الرغم من كثرة محاولتها إقناعه لزيارة أبيها، إلا أنه كان رافضا لزيارته بحجة أنه يملك الأمر والنهي، وعندما تحدث معه كان يردّ عليه بغرور عن معنى القوامة، وأن من صلاحيته منع زوجته من زيارة أبيها، وأن طاعتها لزوجها في هذه الحالة أكثر ثوابا وأجرا لها؛ فقال له د.جاسم: إنّ هذا التفكير الأناني عندك لا يعرفه الإسلام ولا الشريعة الإسلامية، وإنما الإسلام دعا لبرِّ الوالدين ورفع من شأنه، ومن واجبك أن تساعد زوجتك ببرِّ والدها وهو على فراش الموت لا أن تحرمها أمرا جعل الله أهميته بعد عبادته؛ فقال "وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا".

هكذا فهِم القوامة كما تأتّى له، كما صوّرت له نفسه، لهذا فالزوجة في نظرهِ ملكاً له ملّكها إيّاها الإسلام ولم يدرك أنّه ملِّك عصمة نكاحها وهي رباط الزوجية، وللمرأة -كما له- الحق في العصمةِ إن هي اشترطت ذلك في العقد..! لهذا تمسكن البعض للنساءِ وتودد حتى ظفر بهن زوجاتٍ ليتملّكهن حتى إذا تم له ما أراد تركها نزيلة البيتِ، وجليسة الفراغِ، وحبيسة المشاعر البائسة، فهو إمّا يبحث عن "الترفيه" خارجاً، أو عن "ملكيةٍ" أخرى يتملّكها..!! هذه انتهازيّةٌ، وعسفٌ وجورٌ في التعاطي مع أقدسِ علاقةٍ، وأنبلِ صحبة.

في مجتمعاتنا حسب بعض الأثرياءِ أن أموالهم ملكاً لهم فلم ينفقوا على مشاريع خيريّةٍ، ولم ينفقوا على محتاجٍ، ولم يعينوا صاحب ضائقة، وفوق ذلك لم يؤدوا ركناً عظيماً من أركان الإسلامِ وهو الزكاةِ، فكانوا عبئاً على المجتمع لا يسعون فيه إلاّ لتكديسِ الثرواتِ، وجمع الأموال. منذ أيامٍ شهدت قصّة مديرةٍ لمؤسسةٍ تعليمية تريد إقامة ملتقى علمي ينفع أبناء الوطنِ فأرسلت الرسائل إلى أثرياء ورجال أعمالٍ فلم يأتها منهم غير الصمتِ المجحف وكان مطلبها الماديِّ زهيداً، حتى كادت أن تتخذ القرار بإلغاء الملتقى العلمي لولا أن يداً امتدت لها بالعونِ في اللحظات الأخيرة ليقام الملتقى، وتنتعش الجهود. هؤلاءِ حسبوا أن المال ملكاً شخصياً والله يذكرهم بقوله: "وأنْفِقوا مِمّا جعلكمْ مسْتخْلفِين فِيهِ فالّذِين آمنوا مِنْكمْ وأنْفقوا لهمْ أجْرٌ كبِيرٌ" (الحديد:7)، خذ منهم شعارات الوطنيةِ، وكلمات التمجيدِ الوطني لكن لا تطلبهم المال الذي تسعف بهِ المحتاج، وتصقل به الهمم، وتقوي به الكفاءات، وتنمي به القدرات، وتثري به المهارات، فحبْك الكلامِ في حبِّ الوطنِ عندهم أهون من سبْكِ الأموال..! ولولا أن ثلّةٌ من الأجوادِ، بيض الأيادي، رفيعو الغايات لتعطّلت مبادراتٌ، وتنكّبت كفاءاتٌ لأجل نماءِ المجتمعات، وازدهار الأوطان. يقول زهير بن أبي سلمى:

ومن يك ذا فضلٍ ويبخلْ بفضله...

على قومه يستغن عنه ويذممِ

... إنَّ أصعب مرحلةٍ تعيشها المجتمعات هي مرحلةٌ تطغى فيها ثقافة تملّك الأشياء لا الأفكار، حتى أسمى بعض المفكرين المجتمعات العربية بـ"مجتمعات الشيء"..! حيث يتهافت أفرادها على الجمعِ والتكديس للأشياءِ دون تخطيطٍ وحاجة، يقول الفيلسوف مالك بن نبي: "لا يُقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من (أشياء)، بل بمقدار ما فيه من أفكار. ولقد يحدث أن تلم بالمجتمع ظروف أليمة، كأن يحدث فيضان أو تقع حرب، فتمحه منه "عالم الأشياء" محواً كاملاً، فإذا حدث في الوقت ذاته أن فقد المجتمع السيطرة على "عالم الأفكار" كان الخراب ماحقاً. أما إذا استطاع أن ينقذ "أفكاره" فإنه يكون قد أنقذ كل شيء؛ إذ إنَّه يستطيع أن يعيد بناء "عالم الأشياء"".

الجنوح إلى "عالم الأشياءِ" لا "عالم الأفكار" هو الذي حدا بالبعضِ في مجتمعاتنا إلى التعلّمِ من أجلِ الأشياءِ لا الأفكار، وهذه معضلةٌ لأنها جهلٌ من نوعٍ آخر وهو أخطر على المجتمعات من الجهلِ الصريح لأنّه مقنّع كما هي البطالة المقنّعة..! التهافت على الشهادات لأجلِ الأشياءِ (منصبٍ، أو مالٍ، أو وجاهةٍ) ناتجٌ عن التملّك الأناني الفارغ. وفي المقابلِ، فإنَّ تملّكِ العلمِ عن المنفعةِ هو رذيلةٌ مقابلة، ففي الحديث" منْ كتم عِلْمًا يعْلمه ألْجِم يوْم الْقِيامةِ بِلِجامٍ مِنْ نارٍ".

وفي مُجتمعاتنا ثمّة ثقافة سائدة حيث الإنسان يقيّم بـ"الأشياءِ" التي يملكها لا "الأفكار"..! لهذا طفح حبّ المظاهرِ، وغلبة الأثْرة، وإعلاء الذات، فأصبحت الوظيفة والزوجة والأبناء والمال ملكاً شخصياً مطلقاً، وهذا لا ينسجم وحكمة الدين، ومقاصد التشريع الإسلامي الذي انتهج منهج الوسطية فجعل خير الأمور الوسط وجعل الفضيلة بين رذيلتين: "ولا تجْعلْ يدك مغْلولةً إِلى عنقِك ولا تبْسطْها كلّ الْبسْطِ فتقْعد ملومًا محْسورًا" (الإسراء:29).

... إنَّ خطر شهوة التملّك هو في صياغة معايير غير صائبة عن السعادة؛ حيث أصبح المتملّك مزهواً بسعادة تفوّقهِ على الآخرين، وأنّه بقدرِ ما يملك من نفوذ أو سلطة أو وظيفة أو مال أو أشياء فإنّه يستقوي ويستعلي بها على الآخرين، وهذا مرضٌ يفتك بالتعاون والتكافل الاجتماعي بإعلائه حب الذات والاستئثار..! هذه نزعةٌ رأسمالية قاعدتها "أنا موجود بقدرِ ما أستهلك وما أملك"، وهي التي انتقدها غربيون -منهم إيريك فورم (Fromm Erich)- في العديد من كتبه، مما يعني أنَّ شهوة التملّكِ والاستهلاك والمباهاةِ بالأشياءِ وجعلها معيارَ التفوق على الآخرين هي نزعةٌ لا تنسجم مع مجتمعاتنا الإسلامية الروحانية التي نشأت على قيم التعاون والتعاضد والتكافل.

ولقد عَمَد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المجتمع المديني إلى تقنين التملّكِ، فلم ينفهِ ولم يشجّع على الإفراطِ فيه، وإنّما وضع القاعدة التي غدت منهجاً لتعاملات الأنصارِ والمهاجرين وفقاً لقوله تعالى: "لنْ تنالوا الْبِرّ حتّى تنْفِقوا مِمّا تحِبّون" (آل عمران:92)، وقوله عليه السلام: "من كان له فضل زادٍ، فليجد به على من لا فضل له"، وعلى هذا المنوال الكثير من الأحاديث عن الجارِ، والمسكين واليتيم والفقراء...وغيرهم.

تنجرف مُجتمعاتنا إلى الماديّةِ المحضةِ، وإلى "الشيئية" التي تبعدها عن الكينونةِ الاجتماعية التي عمادها التآخي والتراحم والمحبة؛ وذاك الانجراف وجهٌ من وجوهِ سحقِ الهويةِ، فإنَّ لم تنتشل نفسها من هذا الانجراف غير الواعي تفسّخت هويتها؛ فلا يميّزها عن مجتمعات المادة أي مميز!

تعليق عبر الفيس بوك