حينما نُمعِن النَّظر في ما يجري باليمن هذه الأيام، يصعُب علينا استبعاد أصابع "الفوضى الخلاقة " التي ابتدعتها الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس بوش الابن لتُعيد تشكيل خارطة الشرق الأوسط ليس عبر التفاهمات بين مكوناتها، بل عبر تغيير قسري محمول على أسِنَّة رماح الفتن الطائفية وإثارة النعرات المُفضية إلى الحروب الأهلية التي لا تبقي ولا تذر ..
ولقد عايشنا كيف أنّ تطبيق هذا المفهوم "الفوضى الخلاقة " أثمر خرابًا في العراق وسوريا وليبيا، وهاهو اليمن في الطريق..
جاء الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003 تحت شعارات برَّاقة كالديمقراطية والليبرالية ووأد الديكتاتورية، وعندما ننظر الآن إلى حال العراق ندرك أيَّ نوعٍ من الأمنيات أو قُل المؤامرات، كان يُضمرها المُحتل لبلاد الرافدين!!.
لقد دشَّن الغزو الأمريكي للعراق مرحلة جديدة من تدمير المُجتمعات العربية ودخولها في نفق مظلم من النزاعات المسلحة والحروب الطائفية التي لا أمل في إطفائها بالمستقبل القريب..
خلَّف الاحتلال بلدًا منهكًا بالاقتتال، وتسوده الطائفية بعد أن أضرم المحتل نيران فتنها في نسيج المجتمع العراقي وبصورة يصعُب إطفاؤها، متسببة في خلافات وهوّات يستحيل ردمها..
ولم يكن كل هذا نتاج لصدفة أو تصرفٍ عابر، بل نابع من إستراتيجية، جارٍ تعميمها على منطقتنا العربية، وإن اختلفت التفاصيل والسيناريوهات.. ولكن تبقى النتيجة واحدة حروب أهلية مُدمرة، وأنهار من الدم لا تجف..
ونعود إلى اليمن، حيث يجري حاليًا تطبيق الفوضى على أرضه، وهذه المرة عبر أطراف مختلفة دون أن تدرك أنّها مجرد أدوات لتنفيذ خطةٍ مرسومةٍ سلفًا لإدخال البلد في حالة الفوضى، ومن ثمّ تمرير مُخططات عسكرة المنطقة وإشغالها بالصراعات عن قضاياها المصيرية..
إنّه لأمرٌ محزنٌ حقاً أن تقصف طائرات عربية عاصمة عربية أخرى مُسببةً الكثير من الدمار والخراب والتشظي.. انعكاس مرير لسيناريو فتنوي تكوي نيرانه عالمنا العربي..
نُدرك الآن، أنه ورغم الأهداف النبيلة التي وسمت انطلاقة الربيع العربي ابتداءً في تونس ومصر وليبيا وسوريا، إلا أنّه تمّ اختطافه من القوى المتربصة وتوجيهه صوب مآلات أخرى لخدمة أهداف الفوضى الخلاقة.. وهكذا سقطت ليبيا وسُوريا في دوامة هذه الفوضى، مما حفَّز الطامعين من القوى العالمية إلى دخول معمعة التناحر لتصفية حساباتها من خلال حروب بالوكالة تخدم مصالحها، وفي ذات الوقت تقضي على الأخضر واليابس وتدمر النسيج المجتمعي ووحدة الأوطان التي تجري الأحداث على مسرحها.
وواهم من يعتقد أنّ إسرائيل غائبة عن هذا المشهد، حيث إنّه لابد من القول بأنّ دولة الاحتلال هي المستفيد الأول مما يحدث، وبالتالي فإنّ لها يدٌ في الأحداث ودفعها نحو المزيد من التعقيد، فيما تتمدد هي في البناء الاستيطاني، وتوغل في ارتكاب الجرائم بدم باردٍ دون خوفٍ أو وجلٍ لأنّ الاهتمام العربي لم يعُد منصبًا على قضيته المركزية وهي القضية الفلسطينية، بل بات منشغلاً بالحرائق الداخلية الناشبة فعلاً في عدد من دوله أو تلك التي على وشك الاندلاع..!
ومن المعروف أنّ حرب النفوذ الدائرة بين الدول الكبرى في العالم، وصراعها على مناطق الثروات، يجعلها تلجأ إلى وسائل وأساليب غير محدودة لإلحاق الضرر بالمنافس، ومن ذلك استهداف مواقع الثروة بالفتن والحروب، ويمكن تفسير جانب من تردي الأوضاع في اليمن، بالتنافس الأمريكي الصيني الروسي، حيث إنّ كل هذه القوى تطمع في موطئ قدم راسخ بهذه المنطقة الإستراتيجية من العالم، حيث إن ازدياد التوتر بين الدول العظمى في شكل الحرب الباردة ينعكس في شكل صراعات وحروب واقتتال في البلدان الهشة كما هو في اليمن.
والملاحظ أنّ التواجد الصيني أخذ منحى تصاعديًا في اليمن خلال السنوات الأخيرة، وهو أمر تنظر إليه واشنطن بعين الارتياب والشك باعتبار أنّ اليمن في عداد مناطق النفوذ الغربي، وأية محاولة اختراق صيني ستكون محل ردٍ غربي سواء كان مباشرًا أو غير مباشر وذلك بتحويل اليمن إلى ساحة جديدة لحروب الوكالة.
إنّ عودة الاستقرار إلى اليمن رهن بإجماع خليجي في المقام الأول، وعربي ثانياً، ودولي ثالثًا، على ضرورة إنهاء الصراع الدائر حالياً عبر الوسائل السلمية، واحتواء الأزمة من خلال حلول وسطى تتوافق عليها جميع الأطراف.
ولعل المدخل السليم لذلك العودة إلى الاقتراح العُماني منذ ثمانينات القرن الماضي، بضم اليمن إلى مجلس دول التعاون لدول الخليج العربية لأنّها تشكل مكسباً عظيماً لدول المجلس بما تملكه من مقومات نحن بحاجة إلى أن نتكامل معها لدعم الصف الخليجي، كما أنّ الحوثيين هم فصيل من الفصائل اليمنية التي يُمكن استيعابها في حزب سياسي حسب النظام السياسي اليمني..
ولا شك أنّ اللقاء المرتقب لقادة دول المجلس مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما هذا الأسبوع في كامب ديفيد، فرصة لوضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بإبعاد المنطقة عن صراع النفوذ بين القوى الكبرى، والتوقف عن تغذية الصراعات بهدف عسكرة المنطقة من خلال ترويج صفقات الأسلحة لإنعاش الاقتصاد الأمريكي.
القادة الخليجيون مطالبون بإبلاغ الإدارة الأمريكية بأنّ المنطقة بحاجة إلى الاستقرار المبني على أسس التفاهم، وليس الاستقرار المرتكز على توازن الرعب.