"وحدها شجرة الرُّمان"

عهود الأشخرية

"أتذكر السيَّاب.. إن الشعر يولد في العراق/ فكن عراقيا لتصبح شاعرا يا صاحبي"، من منطلق ما تعنيه هذه العبارة حول أن الألم الحقيقي ينشئ أدبًا جيدًا؛ فإنّ هذا الأدب يخرج لنا بهذه الصورة التي لا تخرج عن حقيقتنا، حقيقة الوجود التي يحيط بنا بكل الفواجع والألم الذي تسببه الحروب على تعدد مراحلها بالرغم من أنه ليس ثمة حرب تُصنف على أنها صغيرة، هي حرب فحسب. أمام كل هذا الألم يحاول الإنسان أن يُفرّغه بطرقه الخاصة، فيلجأ البعض للكتابة بكل ما تعنيه المأساة لهم، المأساة التي عاشوها تنصهر في الورق صادقةً، ومن خلال هذا؛ تنتقل لنا صورة الحقيقية لتلك الحياة.

في سبيل توضيح هذه الفكرة، فقد قرأت مؤخرا رواية "وحدها شجرة الرمان" للكاتب العراقي سنان أنطون، هذه الرواية التي نقلت لنا حقيقة الحياة في العراق الحزينة، واقع الرواية التي دارت أحداثها غالبا في مغسل الموتى، ولا أظن أن هنالك مكان قد يصف لنا المأساة أكثر من هذا المكان، عبقرية الكاتب هي التي اختارت هذا المكان بالذات لتدور فيه أحداث روايته، إضافة إلى تكثيف (سنان أنطون) الأحداث التاريخية التي أضفت على الرواية لغة واقعية أكثر من كونها سيريالية لأنها الحرب لا تحتمل ثقل اللغة أيضا ولا استخدامها في سبيل توضيح العنصرية والاختلاف بين الناس، حيث ذكر الكاتب أمنية تفجير اللغة على لسان بطل روايته (جواد كاظم أو جودي كما يناديه من حوله) يقول فيها: "كل هذه المفردات تخنقني كأنها مسامير صدئة في رئتي: شيعي، سني، مسيحي، صُبي، يزيدي، كتابي، رافضي، ناصبي، كافر، يهودي. لو أن بامكاني أن أمحوها كلها أو أُفخخ اللغة وأفجرها كي يستحيل استخدام هذه المفردات".

تتمحور هذه الرواية حول ذلك الشاب الذي يُدعى جواد وهو فنان تشكيلي، ومن خلال جواد تظهر عائلته الصغيرة التي تتكون من الأم والأب (المغسلجي) الذي يقوم بتغسيل الموتى وتكفينهم، هذه المهنة التي تعلمها بدايةً الأخ الأكبر أمير الذي توفي في معركة الفاو. يبدأ (سنان أنطون) الرواية بمشهد كابوسي مزعج جدا، لكن له دلالته التي استمرت حتى نهاية الرواية، من خلال هذا المشهد التي اختفت فيه خطيبته؛ يوضح الكاتب أن الحياة كانت موجودة في تلك البلاد ثم بدأت تختفي شيئا فشيئا. ومن ثم يبدأ سنان بوصف الجحيم التي تسببه الحرب في العراق من خلال مغسلة الموتى التي لم تعد تحتمل تراكمات الجثث فيها بعد أن بدأ جواد يعمل فيها، وذلك بعد الفترة التي توفي فيها والده ليس لأنه أراد أن يبتعد عن حلمه في دراسة الفن وهو الذي في الأساس يكره هذه المهنة التي تجعله قريبا من الموت بعيدا عن الحياة؛ لكنه اضطر أن يعمل بها لأن الذي يملكه لم يعد يسد الحاجة لنهاية الشهر. إن فكرة أن تعيش من وراء الموت كانت فعلا مؤرقة جدا بالنسبة لجواد منذ أن كان والده يعمل في هذه المهنة، فالمال كان يزيد طرديا مع زيادة عدد الموتى.

ويركز الكاتب كثيرا على المكان، ذلك أن المكان هو الوطن الذي ينزلق من أيادي العراقيين للاحتلال، وهو بداية الكيان الاجتماعي الذي يحتوي على خلاصة التفاعل بين الإنسان ومجتمعه، إضافة إلى أنه الفكرة الأولى التي تنشأ لأي طفل، فكرة الأمان والطمأنينة والحب. وبعد الوطن يأتي عنصران متناقضان للمكان وهما: المغيسل وهو دلالة على الموت، الحرب، النهاية والعنصر الثاني هو كلية الفنون الجميلة التي تأتي دلالة على الحياة والحلم والحبيبة. ومن خلال حضور هذين العالمين يفرغ سنان أنطون كل ما جاءت به الحرب من ذاكرة تراجيدية مأساوية ليس من السهل التخلص منها أو نسيان أي جزء منها، إنها باختصار الجحيم التي تحاصر أنفاس الكاتب، والتي اختطفت من الشخصية الرئيسية جواد شقيقه الأكبر أمير الذي كان قد تخرج من كلية الطب واستخدام الطب خصوصا كان رمزا لفقدان الحضارة، ومن ثم الحبيبة ريم بمرض سرطان الثدي والتي كانت أيضا رمزا آخر للفقد، وتتوالى الخسارات أكثر حتى يخسر والده وهو في مكان صلاته المعتاد.

ويفرغ سنان أنطون كل الذاكرة التراجيدية للمأساة من خلال الرموز التي استخدمها ومن هذه الرموز شجرة الرمان والتي كانت تشرب من ماء غسل الاموات لكنها ظلَّت صامدة صامتة، تبتلع الموت لتبقى حية. فينهي سنان أنطون روايته بأن شجرة الرمان كانت تعرف كل شيء، "الأحياء يموتون أو يسافرون والموتى دائما يجيئون. كنت أظن أن الحياة والموت عالمان منفصلان بينهما حدود واضحة، لكنني الآن أعرف أنها متلاحمان، ينحتان بعضها البعض. الواحد يسقي الآخر كأسه. أبي كان يعرف هذا وشجرة الرمان تعرف هذا جيدا. أنا مثل شجرة الرمان. لكن كل أغصاني قطعت وكسرت ودفنت مع جثث الموتى. أما قلبي فقد صار رمانة يابسة، تنبض بالموت، وتسقط مني كل لحظة في هاوية بلا قرار. لكن لا أحد يعرف. لا أحد. وحدها شجرة الرمان.. تعرف".

إن المأساة حين تُكتب بلغة سلسلة مع ذكر الرموز التاريخية المؤثرة فإنها تصل بكامل جحيمها المتوقد، فالكاتب تترسب لديه ذاكرة مليئة بالدمار لابدّ وأن يفرغها بطريقة ما، هذا الدمار الذي وصل حدّ ان التماثيل صارت تخاف نهايتها حين يقول سنان أنطون: "التماثيل تخاف أن تنام في الليل لكيلا تستيقظ ركاما"، رواية مثل هذه كفيلة بأن تجعل الذاكرة مزدحمة بكل مشاهد الحرب والحب رغم الدمار وبريق أمل لا زال يتسع للحلم البعيد.

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك