الخروج من بيت الطاعة

فؤاد أبو حجلة

لا يمكن لتنظيم أن يتحول إلى نظام.. هذه حقيقة أثبتتها تجارب كثيرة في التاريخ العربي المعاصر، فقد فشلت تجربة حكم حزب البعث في العراق وسوريا عندما اصطدم الحزب بمتطلبات حكم الدولة وواقعية المشكلات التي لا تحلها الشعارات، واصطدم الحزبيون في بغداد ودمشق بحقيقة استحالة تطبيق الرؤية الحزبية والتنظيمية في إدارة البلاد التي لا يمكن انخراط كل أهلها في حزب البعث، ولا يمكن استنساخ الأطر الحزبية في الوزارات ومؤسسات الحكم والإدارة التي ينبغي أن تتعامل مع الواقع بمكوناته الإيجابية والسلبية وأن ترسم سياساتها وتضع برامجها بواقعية مؤلمة تصطدم في الغالب مع رومانسية الفكرة الحزبية الثورية.

لم يتوقف الأمر عند هذا المستوى من الاختلاف والتمايز بل تعداه، في الحالتين العراقية والسورية، إلى إعادة الهيكلة التنظيمية في داخل الحزب الواحد تبعاً لمصالح الحكم وأهله، فتمت تصفية الحزب من خلال فرض الرأي الحزبي الواحد وتصفية خصوم القائد الواحد من الحزبيين المختلفين معه في الاجتهاد والرؤى. وقد كانت عمليات التصفية الموجعة تتم تحت شعارات الإصلاح والتصحيح، وهكذا تمّ القضاء على صلاح جديد ورفاقه في دمشق، كما تمّ القضاء على عبد الخالق السامرائي ورفاقه في بغداد.

كان الإعدام والاتهام بالخيانة وصفة عقابية جاهزة لكل من تسول له نفسه تقديم مصالح التنظيم على مصالح النظام، فتم اغتيال حزب البعث مع الاحتفاظ باسمه وبشعاراته غير المطبقة في عاصمتي العروبة التاريخية. وسقط الحزب قبل أن تسقط الدولة باحتلال أمريكي تلاه حكم طائفي في العراق، وبحرب كل أطرافها مشبوهة في سوريا.

في مصر أيضًا، كانت الناصرية التي اجتاح مدها جل خريطة العرب، تتحول من فكرة طليعية رائدة إلى وعاء للقمع مارسته الدولة بعد أن تم تأطير الفكرة الناصرية في "الاتحاد الاشتراكي" الذي كان ينبغي أن يكون الحزب الحاكم لكنه كان في الواقع حزب الحكم ومظلة أدواته الخانقة للحريات العامة. واصطدم حزب الحكم بحلفائه الطبيعيين واستعدى القوى الاشتراكية وقمع الشيوعيين والبعثيين وزج بقياداتهم في السجون.

وفي ليبيا التي حاولت استنساخ التجربة الناصرية تحول تنظيم "الضباط الأحرار" إلى "شلة حكم" يقودها معمر القذافي، قبل أن يتفرق الرفاق وينجح القذافي بثورته الخضراء في إقصاء شركائه في الثورة واغتيال بعضهم، ولعل تجربة عبد السلام جلود مع القذافي تكشف الكثير عن قسوة الثوري المتحول إلى ديكتاتور، كما أن اغتيال عمر المحيشي يؤكد أن شهوة الحكم لا تعرف حدودا.

في عدن أيضا قاد الصراع على الحكم إلى حرب تصفيات في الأطر القيادية للحزب الاشتراكي الحاكم، ولم تكن المجزرة التي قضى فيها علي عنتر ورفاقه الا حلقة من حلقات مسلسل هذا الصراع الذي أخذ شكل الصراع بين جناحين في الحزب، الا أنه كان في واقع الأمر صراعا بين الحزب وبين النظام.

كثيرة هي أمثلة الصراع على الحكم في الحزب الواحد، وهو صراع ينتهي عادة باغتيال الحزب واغتيال الدولة.. وذلك عندما تكون هناك دولة قائمة أصلا. لكن هناك حالة تفوق في قسوتها كل ما سبق، وهي الحالة الفلسطينية التي شهدت الانتقال من الثورة إلى شبه الدولة، فاغتيلت الثورة ولم تقم الدولة.

رغم ذلك، تحول التنظيم إلى نظام، فصارت فتح حزب الحكم في الضفة الغربية، وصارت حماس بانقلاب دموي حزب الحكم في قطاع غزة، ورافق ذلك التحول ما رافقه من قمع وتصفية وإقصاء حتى تخضع الضفة لحكم الزعيم والقائد الواحد الذي تتصدر صورته الصفحات الأولى في الصحف وتتقدم أخباره البروتوكولية عناوين النشرات الإخبارية الإذاعية والتلفزيونية، وتحرص أجهزته الاستخبارية على محاسبة ومعاقبة من يجرؤ على انتقاد سياساته أو لون ربطة عنقه.

ولم يختلف الأمر في غزة، فقد صار الحاكم أميرا للمؤمنين المنخرطين في حلقات الذكر الحمساوي، وتولت أجهزته الأمنية إسكات من يجرؤ على نقد محتوى خطبة الجمعة.

وفي الحالتين تم إبعاد من لا يروق للزعيم أن يراهم أو يستمع إلى رؤاهم، وهكذا أقصيت القيادات الاصلاحية عن أطر فتح ومؤسساتها وتم وسم الخارجين من بيت الطاعة بالمتجنحين والمنشقين. وسادت حالة من اللاثقة واللايقين عبرت عن نفسها بتراجع فتح في الشارع الضفاوي وفي النقابات والاتحادات التي كانت منذ تأسيسها ساحة للمد الفتحاوي، ولعل نتائج انتخابات اتحادات الطلبة في الجامعات الفلسطينية، وفي جامعة بيرزيت تحديدا، تكشف ما آلت إليه حركة فتح من تراجع وانهيار تحت قيادة الزعيم الأوحد.

كان ينبغي أن يستخلص الفلسطينيون دروس التجارب الأخرى التي تؤكد أن التنظيم لا يمكن أن يتحول إلى نظام، وأن وجود النظام يتطلب في الأصل وجود دولة. لكن أهل الحكم لا يحبذون هذه القراءة للواقع الصادم، ويريدون حشرنا جميعا في بيت الطاعة.

تعليق عبر الفيس بوك