عندما يموت الشاعر

عهود الأشخرية

حين يموت شاعر، ويرحل من هذه الأرض، يتّسع تأويل المجاز، يذهب بجسده بعيدًا. لكن ثمّة ما يتشكل كندبة فينا؛ إنها القصيدة. أظن أن هذا الأمر يشبه إلى حد ما (سركون بولص) حين قال: "المقيمون طويلاً يسلبون مقاعدنا. يحوّلون أثاث بيوتنا إلى قِطعٍ منهم. بحيث نجلس، إذا جلسنا، على ضلوعهم، على عظامهم"، هذا لأنّ القصيدة العظيمة لا يمكن أن تمر ولا تترك خلفها آلاف الدموع، والتفسيرات وردات الفعل بشكل عام كيفما كانت، وذلك أيضًا لأنّ البقاء الطويل لا يمكن أن يكون مقرونًا دائما بعامل الوقت؛ إنما هناك أشياء أخرى تدخل في هذا النطاق؛ أعني بذلك ما خلف هذا البقاء من دهشة، ومن جمال يخلفه البقاء حتى ولو كانت مدته قصيرة.

"عندما يموت الشاعر، يبكيه كل أصدقائه. كلهم يبكونه، عندما يموت الشاعر العالم كله يبكي"، هذا مقطع من إحدى أغنيات المغني الفرنسي (جيلبير بيكو)، أغنية تتحدث عن موت الشعراء وما خلف هذا الشيء من إنكار لفكرة رحيلهم، وإن كان لابدّ من ذلك فإنّ قصائدهم تنبت في الحقول. إن الأغنية هذه وغيرها من الأغاني والقصائد التي ترثي الشعراء؛ كل الشعراء وليس شاعرًا بعينه تمنح العالم لفتة حقيقية لعظمة وجود الشاعر الحقيقي عليها، ربما وجود الشاعر لا يُقلل وجود المآسي، لكن يجعل الحياة ممكنة، حيث إنّه يظهر لنا جمالية الوجود باللغة. لا يمكنني هنا إلا أن أذكر "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، حتى يتضح ما أعنيه من قدرة الشاعر على تقليص كمية البؤس وأخذها إلى لغة الجمال، الكتابة لا يمكن أن تكون إلا منفذا إلى عالم آخر؛ مدهش وجميل.

إن جدلية الحياة والموت موجودة منذ القدم في الشعر، والتحدث عن هذا الأمر يحتاج إلى تفصيل دقيق؛ وإن تحدثنا عن الشعراء بشكل خاص فهنالك من يختار موته بطريقته الخاصة وذلك انتحارا بطرق غريبة وربما قاسية جدًا. وكتبت الشاعرة (جمانة حداد) عن سيرة الشعراء والشاعرات الذين اختاروا طريقة لموتهم في كتابها (سيجيء الموت وتكون له عيناك)... مئة وخمسون شاعراً انتحروا في القرن العشرين. مئة وخمسون صرخوا (أو همسوا): "كفى"، وهناك أيضًا من تقتله قصائده خصوصًا إن كانت تتحدث عن مواضيع حسّاسة كالغيبيات والعقيدة وغيرها من الأشياء التي تسبب قلقاً لفئة كبيرة، ومن المثير أن شعراء تنبئوا بموتهم أمثال: بدر شاكر السياب وأمل دنقل وهناك شعراء خلدتهم قصائدهم حتى هذه اللحظة، فاللغة تبقى إن كانت تستحق أن تبقى، رغم أن هنالك شعراء يستحقون الخلود، لكنهم تلاشوا دون أيّ أثر. وغالبا الشعراء يحبون أن يختاروا طريقة موتهم من خلال قصائدهم. مجددًا أذكر مقطع (لمحمود درويش) يقول فيه: "أريد موتاً في الحديقة لا أكثر ولا أقل".

وعن حساسية موت الشعراء، فإنّ أكثر ما يؤلمني أن البشر -ليس جميعهم- يعرفون الشاعر فقط حين يموت ويبدأ السباق الكبير في تناقل قصائدهم، وسيرة حياتهم، و و. وهذا الأمر مُجدٍ بدرجة معينة ذلك لأنّ أكثر طريقة لنرثي شاعر ما أن نتذكر قصائده، لكن شخصياً يسبب لي الغضب. لم علينا أن نحمل شعاراتٍ لقصائد شاعر ميت في حين أننا كنّا يمكن أن نعرفه أكثر وهو حي؟ وإن كنّا سنتحدث عن قصائد الرثاء فأجمل ما قيل في رثاء شاعر ما كتبه الشاعر (و.هـ. أودن) في رثاء الشاعر (وليم بتلر ييتس): "إن بدن الشاعر، يظل بعيداً عن قصائده
ومساء موته، هو آخر مساءٍ، كان فيه الشاعر يشبه نفسَه" .
ومن ناحية أخرى، الشاعرة والروائية الأفريقية-الأمريكية ( أليس ووكر) كتبت رثاءً مختلفا تماما، حيث كان -في داخله- تمجيدا للموت، وتمجيدا لرحيل الشاعر. تقول فيه: "أما عندما يموت شاعر، فتعمّ البهجة في السماوات والأرض، وتطلق الأشجار حفيفاً عالياً، وتسطع الشموس سطوعاً وهّاجاً. وتهدر المحيطات، ذلك لأنّ الشاعر يسافر، يعود أخيراً إلى منبع الصوت حيث تقيم الأشياء جميعاً إلى الأبد، مخلّفاً وراءه الجسد"، وهي من أكثر الذين يمجدون الكلمة التي في رأيها يجب أن تحقق المساواة وتقتل العنصرية المفرطة التي غلّفت العالم.


لذا علينا أن نكون أكثر تعاطيًا مع حياة الشاعر أكثر من موته، الشاعر الإنسان الذي يأخذ العالم من اللاجدوى إلى بعض أسباب الحياة التي تكمن خلف الجماليات التي تحتاج لقلب مُبصر.
وبتكملة أغنية (جيلبير بيكو) أنهي حديثي، فالأغاني الجيدة يجب أن تبقى معلقة في قلوبنا لكي تحرسها: "عندما يموت الشاعر، يدفنون نجمته في حقل شاسع
في حقل قمح شاسع ولهذا نعثر في هذا الحقل الشاسع، على زهر توت بري
ولذلك لا تصدقوا موتهم
الشعراء لا يموتون، ولا ينتحرون
وعبثًا يحاولون ذلك، وإذا انتحروا، وماتوا
ينبتون قصائد في الحقول
وأزهارا وفاكهة سوداء."


Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك