مسؤوليَّة المثقف

أسماء القطيبي

تتعرَّض مُصطلحات مثل: الثقافة، والفلسفة، والحداثة، في مُجتمعنا، للكثير من التشويه، وإساءة الاستخدام بشكل مُتعمَّد أحيانًا، وبسبب الجهل غالباً. لذا؛ فإنَّ كثيرا من أصحاب الثقافة يتحاشون توصيفَ أنفسهم بالمثقفين، رغم الدلالات الإيجابية لهذه الكلمة لغة واصطلاحا. ولعلِّي أميلُ إلى ذلك التعريف الذي يصفُ المثقف بأنه "الشخص الذي له القدرة على استخدام تفاعله مع مجتمعه في فهم الأوضاع المجتمعية والظروف المحيطة، وتوجيه نتائج فهمه بما يفيد المجتمع". وهي مسؤولية كبيرة لا يتحمَّلها إلا من يملك ولاءً كبيرا وحسًّا عاليا تجاه الرسالة العظيمة التي يقوم بها، مع ما يتطلبه الأمر من صولات وجولات وتضحيات مستمرة.

... إنَّ الوَعْي بأوضاع المجتمع يتطلَّب قراءة متمعِّنة في تاريخ المكان والأحداث التي مرَّت عليه، وكيفية تعامل الناس مع هذه الأحداث والتغيير الذي أحدثته فيهم؛ مما يُؤدِّي إلى استيعاب التناقضات، ومقاربة الحاضر بجذوره الأولى، كما يتطلَّب أنْ يُلامس المثقف مُجتمعه فيحس بمشاكله ويتألم لأوجاعه؛ لأنَّ هذا التفاعل الصادق جُزء من الدراسة التحليلية للأوضاع، وهو ما عبَّر عنه علي شريعتي في "مسؤولية المثقف": "...أعظم مسؤوليات المثقف أن يجد السبب الأساسي والحقيقي لانحطاط المجتمع، ويكتشف سبب الركود والتأخر"؛ فالفهم -كما يُقال- نصف الحل. أما النصف الآخر فهو الأصعب، ولا يقوم به إلا قلة لأنَّه يتعدَّى القول إلى العمل. وهو إحداث حراك ثقافي يهدفُ لتحسين حياة الأفراد ورفع وعيهم عن طريق الفعاليات الثقافية التي تعود بنتائج ملموسة على أرض الواقع؛ بحيث لا تقتصر هذه الفعاليات على الآداب والفنون، بل تتعدَّاها إلى مجالات القانون والسياسية والعلوم التطبيقية...وغيرها. وألا تكون محصورة على فئة المتعلمين أو أصحاب الشهادات، بل أنْ تشمل جميع شرائح المجتمع بفئاتها العمرية ومستوياتها التعليمية المختلفة.

ويُعلل بعض الكُتاب والمثقفين سببَ غيابهم عن المشاركة في المشهد الثقافي بأنه قائمٌ على المحسوبية والنفاق والمجاملات؛ لذا فإنَّهم يكتفون بالمشاهدة و"نقد المشهد وشخوصه". يبدو لي هذا الموقف سلبيًّا؛ لأن عُزوف البعض عن المشاركة يُتيح الفرصة لأنصاف المثقفين وأصحاب المصالح في الظهور أكثر؛ وبالتالي تتَّجه الأوضاع نَحْو الأسوأ. ولعل هذا العزوف له أسبابه الوجيهة وأهمها: تصادم المثقف مع السلطة الذي يحتدُّ أحيانا لدرجة استغلال السلطة قوَّتها في قمع المثقف، وهو أمر طبيعي؛ لأنَّ دور المثقف في إحداث التغيير يُحتِّم عليه ألا يكون مُواليا لأي سلطة، بل أنْ يكون حرًّا؛ بحيث يتمكَّن من النظر بحيادية في القضايا المختلفة. والسبب الآخر الذي قد يتذرَّع به بعض المثقفين هو أن ما من آثار ملموسة -إلا فيما ندر- لما يقومُون به، وهو الآخر عُذر غير مُقنع؛ لأنَّ المثقف يتعامل مع الأفكار، وهي تحتاج إلى وقت طويل لتتشكل أو تتغيَّر، بل رُبما استغرق الأمر عدة أجيال قبل أن تظهر ثمار ما يغرسونه. وعليه؛ فإنَّ ابتعاد المثقف الحقيقي عن الساحة خذلان للمواطن الذي يعول على هذه الفئة آماله في إحداث التغيير. كما أنَّ المثقف يخلي بهذا التصرف مسؤوليته من تردي الوضع الثقافي وركوده، بينما هو أكثر الملومين لتهربه من واجبه تجاه المجتمع.

... إنَّ المثقف صاحب رسالة لها أهدافها النبيلة الخالية من أي مصلحة شخصية، نابعة من الشعور بالمسؤولية، ومدفوعة بالحب وإحساس الانتماء للأرض وللناس؛ لذا فإنَّ ما عليه أن يفعله هو أن يسعى لتحقيق أهدافه دون أن ينتظر مديحا أو تكريما من أحد، ولعل التحدي يكمن في كيفية أن ينخرط هذا الشخص في المشهد الثقافي دون أن يصبح نسخة من الآخرين لا تضيف إليهم إلا عددا، ودون أن يصيبه الإحباط لكثرة المعوقات التي تعترض طريقة بسبب المثقفين أنفسهم مرورا بالسلطة، وانتهاء بالمجتمع. ولعل الأفضل أن يبقى سقف توقعاته منخفضا حتى لا يصيبه اليأس ويجعله يتراجع عن مشاركة الآخرين مشاريعه التي تخدم الفكر وترفع مستوى الوعي في المجتمع. كما يتطلَّب الأمر جرعة صبر كبيرة، خاصة وأنه سيتعرض -على الأرجح- لانتقادات كثيرة لأنه يتعامل مع مجتمع كامل بتنوعاته، وبما يحمله أفراده من خلفيات ثقافية ودينية وأيديولوجية. لكنَّ إيمانه أنه في الطريق الصحيح، وأنَّ ما يقوم به للناس ومن أجلهم، وهي طريقته للتعبير عن حبه للوطن وإيمانه بأفراده سيجعله يتخطى هذه التحديات آملا أن يكون لأفعاله أثر في تطور المجتمع ورُقيِّه.

Asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك