ندوة تطور العلوم الفقهية تناقش 58 بحثا تخصصيا حول مناهج التجديد الديني والفقهي

◄ السالمي: الندوةَ تقام بتوجيهات صاحب الجلالة الذي تحتفي السلطنة بعودته سالما معافى

◄ الخليلي: جلسات الندوة تمثل محاضن لعلاج الإشكاليات الفقهية التي تفرزها التطورات الحياتية

◄ مفتي الديار المصرية يستعرض ورقة عمل حول تحرير المفاهيم في مسألة تطبيق الشريعة

◄ أفلح الخليلي يناقش التكييف الفقهي ورد المسائل إلى أصلها الشرعي في ورقة بحثية

◄ إشكاليات التقليد الفقهي وإمكانيات التجديد.. عنوان ورقة عمل قدمها رضوان السيد

◄ عبد المحمود أبو إبراهيم يقدم ورقة بحثية عن مسارات الإصلاح في الفقه والأصول

◄ محمد إمام يستعرض بحثا حول الفارق بين الحكم التكليفي والوضعي في النظرية الأصولية

انطلقتْ، أمس، أعمالُ النسخة الرابعة عشرة لندوة تطور العلوم الفقهية، تحت عنوان "فقه العصر:مناهج التجديد الديني والفقهي"، التي تنظمها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، تحت رعاية معالي الشيخ محمد بن أحمد الحارثي مستشار الدولة، وتستمر حتى الثامن من أبريل. وشارك في افتتاح الندوة -التي تُعقد بفندق جراند حياة مسقط- جمعٌ من أصحاب المعالي وزراء الأوقاف والشؤون الإسلامية، وأصحاب السماحة مفتيي الدول العربية والإسلامية وعلماء من دول مجلس التعاون والدول العربية والإسلامية، ورؤساء بعض الجامعات العربية.

وقال سعادة الشيخ أحمد السيابي الأمين العام بمكتب الإفتاء: إنَّ ندوة هذا العام تتميَّز بالحيوية والفاعلية.. مشيرا إلى أنها تحمل عنوانا وتصورا منذ الدورة الأولى لها، وهي في الدورة الرابعة عشرة تحمل عنوان التطور، بغض النظر عن عناوينها الفرعية.. موضحا أنَّ عنوانها الفرعي لهذا العام في غاية الأهمية لأنه يتعلق بالتجديد الفقهي والفكري، وهو أمر مطلوب في علوم الفقه التي تؤطِّر لحياة الإنسان بين الأحكام الشرعية الخمسة وبين الوجوب والتحريم أو المكروه أو المباح.. مشيرا إلى سعادته -والمشاركين في الندوة- بأن تتزامن أعمالها مع الاحتفالات بعودة صاحب الجلالة -حفظه الله ورعاه، وأنعم عليه بالصحة والعمر المديد.

الرُّؤية - مدرين المكتوميَّة

وألقى الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن سليمان السالمي رئيس اللجنة المنظمة للندوة، كلمة الوزارة.. قال فيها: إنَّ المسلمونَ امتلكوا عبرَ العصور فقهاً للدين، وفقهاً للعيش. وكلاَ الأمرين جَرى تكونه، وجرتْ تنميته وتطويره، استناداً للكتاب والسنة، وتجارب المسلمين مع نصوصهم وسلفهم فهماً وعيشاً -ومع إدراكات جماعاتهم للمصالح في العلاقات فيما بينهم، ومع الآخر المحلي والعالمي.. إنَّ مناهج الاجتهاد والتجديد وآلياته، في تلك الأزمنة، كانت تتم ضمن المنظومة السالفة الذكر، ومن داخلها، وضمن القواعد الثلاث التي استقر العمل بمقتضاها: النص القرآني والسنة النبوية، وإجماعات المسلمين وأعرافهم، وآليات الاستنباط المتمثلة في القياس الفقهي الذي نمت البحوث بشأن جزئياته نمواً كبيراً. وبخلاف الانطباعات السائدة عن توقف الاجتهاد وانسداد بابه قبل ثلاثة قرون وأكثر؛ فإنَّ التطويرات النظرية، والمبادرات العملية، ظلت جاريةً بحسب الاحتياجات، وبحسب المفاهيم المتعارف عليها للتعامل الفقهي والمصلحي. والمصالح كما هو معروفٌ، صارت مقصداً من مقاصد الشرع، وعملاً من أعمال النظر الفردي والجماعي. لقد تغيَّر المشهد كله منذ النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري؛ فقد تصاعدت دعوات تغييرية من نوع آخر. لقد دعا الكثيرون إلى "فتح باب الاجتهاد" الذي اعتبروا أن بابه قد انسد. وتناولوا بالنقد آليات الاجتهاد الفقهي، واتخذ النقد أحد مسارين: مسار العودة المباشرة للكتاب والسنة مع محاولة تخطي التقليد الفقهي ومسار الإصلاح الديني الذي يريد العودة للمصادر أيضاً، لكنه يستهدف التلاؤم مع ظروف العصر ومتغيراته.

الآثار والمشكلات

وذكر السالمي أنَّ القرن الرابع عشر الهجري انقضى دُوْن أن تنقضي آثاره ومشكلاته، وشهد تنامي هذين التيارين، تيار الاجتهاد والتجديد، وتيار التشدد والتأصيل. ونحن نعنى في ندوتنا الرابعة عشرة هذه بتيار الاجتهاد والتجديد. لم يعد أحدٌ يتحدث عن التقليد باعتباره البداية والنهاية. لكن باعتباره ضمن العمل في الاجتهاد والتجديد، هناك من يريد فهم التقليد وتجاوزه. وهناك من يريد فتح التقليد ونقده والبناء عليه. إنَّ اتجاه فتح التقليد ونقده والانتقاء منه، هو الذي قام بالأعمال الكبرى في المجال الفقهي في القرن الرابع عشر الهجري. وقد اتخذ لذلك سبيلين: سبيل الانتقاء والإضافة والتحرير والتعديل. وسبيل الاستناد إلى "مقاصد الشريعة" لإحلال الأصل الغائي محل الأصل القياسي التقليدي. والانطلاق من ذلك لتأسيس منظومة فقهية جديدة تتجاوز المنظومة التقليدية دون أن تتصادم معها أو تصطنع قطيعةً إزاءها؛ فالتقليد المذهبي ومنظومته يصبح في هذه الحالة تأريخاً تشريعياً لا يمكن الاستغناء عنه. وأعمال هذه الندوة المتجددة تنطلق من هذه الرؤية فعندما نتحدث عن الفقه الإنشائي أو الابتدائي، فهو جديدٌ من ناحيتين: الموضوعات، والاستناد المرجعي. ففي الاستناد المرجعي يجري اللجوء إلى المقاصد والغايات أو المصالح الضرورية. وفي الموضوعات، تظهر مسائل وقضايا واحتياجاتٌ جديدة، يصعب الاستناد فيها إلى القياس- فتصبح الأدلة الشرعية وفي طليعتها الكتاب والسنة هي المرجع الأساس، وتصبح احتياجات المسلمين بحسب ما يقدرها العلماء، وضمن المقاصد والغايات الأخلاقية والحاجية التي تتطلبها متغيرات حياة الجماعات والأمة. إنَّ هذا التصنيف الذي لجأنا إليه عندما كنا نخطط في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية لندوة "فقه العصر"، يفتح المجال للتواصل بين سائر التيارات التي تعاملت خلال القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر الهجريين مع مستقبل الفقه الإسلامي من مبادئ ومنطلقات بناءة. فعندما نقول بالاجتهاد أو الفقه الإنشائي، يمكن فهمه باعتباره عملاً اجتهادياً في مناطق الفراغ التشريعي. فنهج المقاصد التجاوزي الذي لا يزال يفتقر إلى الآليات الدقيقة، التي يتضمنها المنهج القياسي، لا يمنع من الاستعانة -في عمليات البحث عن المصلحة- بالمنهج الآخر، واستخدام ما تتيحه البيئات الجديدة من إمكانيات للتفكير والتدبير. والتساند بين الأمرين أو المنهجين يحول دون القطيعة المضرة جداً، لأنها إما قطيعةٌ مع التقليد لصالح التأصيل، أو قطيعةٌ مع الجديد المتعارف عليه في العالم، لصالح الهوية المنكمشة والمتحفزة.

النهضة المباركة

وأضاف السالمي -في كلمة الوزارة- بأنَّ هذه الندوة المباركة تقام بتوجيهات حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله- وها هو اليوم وبعد فترة استشفاء هلَّ علينا في عمان بدراً طالعاً في سماء العافية والسعادة، ونحن مسرورون بعودة صاحب الجلالة؛ فقد ارتبط سعدنا -عمانيين وعرباً- عقوداً وعقوداً في زمن النهضة المباركة بهمة صاحب الجلالة وحكمته وشجاعته واستنارته، ولا تزال الآمال معقودةً عليه في قيادة الشعب والأمة إلى آفاق أبعد وأسعد، إننا إذ نستبشر بطلته وقد قدم خير مقدم، نسأله سبحانه وتعالى له ولنا به، وقد أخرج سبحانه البلاء أن يمن بدوام المعافاة ودوام التوفيق، والذي عودناه -عزَّ وجلَّ- برحمته وفضله. اللهم لقد جمعت شملنا بالسلطان، ونهضت بنا بهمته وحكمته ويمن طلعته فاكتب له الخير، وصنه بالبر والطاعة، ووفقه لما تحب وترضى، وأكرمنا، أكرم هذا البلد الطيب الذي اتبع دينك منذ زمن دعوة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، بطول عمر جلالة السلطان وقيادته وريادته وتوفيقه والتوفيق به.

وتابع السالمي: هذه هي ندوتنا الرابعة عشرة في فقه الإصلاح والتجديد، ونسأل الله سبحانه أن تأتي ندواتٌ وندواتٌ نتشرف فيها بتوجيهات جلالة السلطان وإشرافه، وروحه النهضوية، واستنارته المشرقة، فإنك يا رب العالمين خير مسؤول، وقد أخبرتنا في كتابك الكريم بأن "ادعوني أستجب لكم"، إن تكن يا رب العالمين قد ابتليت فقد عافيت، وإن تكن قد أمرضت فقد شفيت، فلك الشكر والعرفان، وبالشكر تزداد النعم. إنَّ خطة ندوة "فقه العصر"، وباجتهادها الإنشائي تنحو ثلاثة مناحي؛ الأول عرض ما تم لهذه الجهة سواءٌ في إنتاج النظم أو الاجتهادات الفردية. والثاني عرض الموضوعات الخلافية سعياً للوصول إلى توافقات حولها. والثالث طرح مسائل استشرافية في كل أبواب الندوة تقريباً. وإننا في سلطنة عمان، لنشعر بالاعتزاز كذلك بما تضيفه هذه الندوة لسببين؛ هما: اجتماع هذه النخب العالمة على الخير والحق والتشاور والتضامن، والبحث الجماعي والمستمر للاحتياجات والتحديات طوال العقد ونصف العقد من عمر هذه الندوات. أهلاً ومرحباً بكم في بلدكم عمان بلد الأمن والسلم والآمان ونشكركم جزيل الشكر على تلبية الدعوة وعلى حضوركم الكريم إلى هذا الجمع الطيب المبارك.. سائلين الله العلي القدير أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه إنه هو السميع العليم.

في ظلال الفقه

وألقى سماحة الشيخ أحمد الخليلي مفتي عام السلطنة، كلمة؛ قال فيها: إنها لفرصه سعيدة، أن نلتقي في ظلال الفقه في الدين، في هذه الندوة المباركة التي سبقتها 13 ندوة من قبل، لتكون هذه الندوة هي الحلقة 14 من حلقات هذه الندوات الطيبة التي تُعنى بتطور الفقه، ومن المعلوم بداهة أنَّ المسلم فردًا ومجتمعًا وأمة بحاجة إلى الفقه في الدين؛ لأنه يطلع بأمانة الله سبحانه وتعالى ويسير على نهج الله فالإنسان لم يخلق هباءً ولم يترك سُدى، وإنما خُلق ليطلع على أمانه ثقلت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقنا منها، وحملها الإنسان، لذلك كان على المسلم أن يحمل هذه الأمانة بجدارة وبمعرفة وبصيرة، لأن لا يتهور كما يتهور الآخرون، والمسلم دائما يحرص على أن يراعي أوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه في كل ما يقدم عليه وفي كل ما يحجم عنه، على أنه بجانب ذلك ليس مسؤولًا عن نفسه ومسؤولا عن العالم بأسره.. ومن المعلوم أنَّ ذلك لا يتم إلا ببصيرة؛ لأجل هذا كان الفقه في الدين ضرورة ملحَّة، كما يُؤذن بذلك القرآن الكريم، عندما يقول الله سبحانه وتعالى: "وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون"؛ فالإنذار هو منوط بالفقه في الدين، وقد جعل الله سبحانه وتعالى طبيعة البشر مُتطوِّرة ليست جامدة على حال واحدة، ومع هذا التطور تنشأ مشكلات متعددة، هذه المشكلات بحاجة إلى أن يُسلط الضوء عليها من حيث حُكم الله سبحانه وتعالى، والذين يضطلعون بهذه الأمانة ويؤمون بهذا الواجب إنما هم الفقهاء الربانيون القادرون على استنباط الأحكام الشرعية، وإعطاء كل مشكلة من هذه المشكلات حلولها؛ لذلك هذا الاجتماع، وأمثاله من اللقاءات التي تتم بين الفقهاء هي محاضن للعلاج، لهذه المشكلات التي تفرزها التطورات الحياتية.

المنهج القويم

وتحدَّث الدكتور شوقي علام مُفتي الديار المصرية، مؤكدا أنَّ الخطاب الشرعي منذ أن نزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يُخاطب مكلَّف ويتعلق بفعله أيًّا كان هذا المكلف، ويعالج مشكلاته ويضع لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنهج القويم، الذي تعالج به المشكلات ثم يقتفي أثر هذا المنهج من بعده صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم يكون عصرًا بعد عصر، ويكون لكل عصر مُستجداته ومشكلاته، ولا ريب أنَّ علماء الأمة قاموا بواجب الوقت في كل عصر وحين، فألفوا وأعطوا الحلول العملية لمشكلات التي تحدث للأمة، ولا ريب أن العصور تفرز من المشكلات ما لا يُحصى لها، كلما تقدمت البشرية وكلما تقدَّمت وسائلها وأساليبها، فإنَّ المشكلات التي تحتاج لاستنباط حكم من الأحكام الشرعية هو أمر لازم، ولاشك أنَّ هذه الثروة التي تركها لنا الفقهاء الأكارم من قبل، ثروة فخر لأمة الإسلام وهي تراث حقيقي، ينبغي أن يحافظ عليها وينبغي أن يؤخذ منها كل ما يعين على فهم المناهج والقواعد، فإننا لا نعتني بالمسائل أكثر ما نعتني بالمناهج؛ فالمناهج هي الأساس في الاستنباط ولا ريب أن المدارس الفقهية كالمدرسة الإباضية والحنفية والمالكية ومدرسة الشافعية وكل المدارس الفقهية، لا ريب أنها ساهمت إسهاما كبيرا في تاريخ البشرية، وأعطت من المناهج ما يمكن أن نسير عليه، علينا أن ننظر إلى اجتهاد الآخرين كما نظر العلماء الأسلاف، إلا أنَّ اجتهاد عندي أنا صواب، لأنها بنيت على مقدمات في نظري صحيحة، وأدت لنتائج صحيحة، ومع ذلك فأنا لا أقول إن صوابي صحيح، ولكنه صواب عندي ويحتمل الخطأ عند غيري، وقول غيري خطأ عندي ولكنه يحتمل الصواب؛ لأنه بُني على مقدِّمات عنده، وبناء على ذلك كله فإنَّ هذه النظرة الأحادية هي خطر على الأمة في ظل المتغيرات التي نعانيها الآن بسبب النظرة الأحادية التي تسيء للآخر ولا تعترف باجتهاد الآخر. ومن المهم، ونحن نعالج قضايا العصر وهذا العصر الذي تشابكتْ فيه المشكلات وتعقَّدت تعقدا كبيرا، من المهم أن يقف الفقيه والمجتهد على توصيف للواقع قبل أن يصدر حكم، وقبل أن يأتي للأدلة الشرعية لاستنطاقه واستنتاجها بالحكم الشرعي منها؛ فلابد أن يتم توصيفها توصيفا دقيقا حتى نعطي الحكم الدقيق والسديد.

فصل تخصصي

وقال سماحة الشيخ آية الله أحمد مبلغي -من علماء حوزة قم بالجمهورية الإيرانية الإسلامية- إنَّ ما ركزت عليه هذه الندوة من موضوع فقه العصر ومناهج التجديد الديني والفقهي مهم للغاية، وهو ما يحاول تحقيقه في ظل القضايا المستجدة والعصرية على طاولة الدراسة، البحث من خلال الفقه عن حل للمشاكل التي يعاني منها الإنسان المعاصر، لا أن تتسع به هذه المشاكل أو أن تتعقد، وتحقيق أداء فاعل ودقيق وعصري للفقه بحاجة إلى دراسات معمَّقة. ومن هنا، جاء إنشاء فرع أو إيجاد فصل تخصيصي تحت عنوان "فقه الأداءات"؛ كي تكون مهمته توفير ما يغلب على الفقه.

الأصول النظرية

وتناولت الندوة في جلستها الأولى والمحور الأول والمتعلق بالأصول النظرية لفقه العصر، وقدمت في الجلسة خمسة أوراق عمل، وكانت الأولى من تقديم الأستاذ الدكتور شوقي علام مفتي الديار المصرية، التي كانت بعنوان "تحرير المفاهيم: مسألة تطبيق الشريعة"، والتي تلخَّصت في أن تطبيق الشريعة يتم من خلال استعمال العقل في أدلة الشريعة، وأنه لابد من مراعاة الزمان والمكان؛ لذا يأتي تطبيق الشريعة من خلال نظر الفقهاء المعتبرين المتمكنين وتصورهم للواقع، وقد يحتاج الفقيه إلى سؤال أهل الاختصاص حسب متطلبات الواقع. إلى جانب أن الشريعة طبقت زمنا من قبل القضاة لأن القضاة أنفسهم ذوو علم وتمكن في الشريعة وفي تصور الواقع، ومن لم يكن من أهل الاجتهاد فعليه الرجوع لأهل الاجتهاد، كما تناول أيضا في ورقته أنَّ الشريعة مطبقة على المستوى العام الاجتماعي وعلى المستوى القضائي، تفرض على القضاة التفقه في الدين والعمل على تصور للواقع تصورا كافيا للحكم، وقد دعت الحاجة إلى تقنين الفقه ووضع القوانين التي تنظم الأحكام حتى لا تتضارب الأحكام. كما أننا لو تمعنا في النظريات التي تضبط قوانين للجنايات فإنَّ فلسفتها تكاد تكون مُتفقة فيما بينها ومتوافقة مع المذاهب الإسلامية، وفي التطبيق معظم الحدود مطبقة وفق نظريات الفقهاء.

وقدَّم الشيخ أفلح بن أحمد الخليلي ورقة بعنوان "التكييف الفقهي: أهميته وآلياته"، وجاءت أهم النتائج التي توصل إليها البحث على ما يلي: أن التكييف هو "رد المسألة إلى أصلها الشرعي"، وأن تنزيل الحكم الشرعي على الواقع يفتقر إلى تكييف دقيق، ولا يتأتى تحكيم الشرعية إلا بذلك، كما أن اختلاف التكييف سبب مهم لاختلاف الفقهاء، ودقته تقلص دائرة الخلاف سواء في القضايا السياسية أم الاقتصادية أم غيرها، وأن العلوم التجريبية لها أثرها البالغ تحديد بوصلة التكييف، وأنَّ النية والأعراف وخصائص العقود لبنات في بناء التكييف الدقيق مع الاستفادة من لفظ العقد دون شك، كما أن آليات التكييف تؤثر على الحكم التكليفي دائما وعلى الحكم القضائي حينما تظهر النتيجة، وأن العقد على المنافع في حقيقته هو إجارة.

إشكاليات التقليد

وجاءتْ ورقة الأستاذ الدكتور رضوان السيد تحت عنوان "إشكاليات التقليد الفقهي وإمكانيات التجديد"، ومن أهم النقاط التي تعرضت لها الورقة: أنَّ الأساس في ظهور التقليد الفقهي أمران: استقلال المجال الديني عن المجال السياسي نسبياً، والاستقلال النسبي أيضاً عن المجال العقائدي أو الكلامي. وبلغ من قوة هذا التقليد المستقل أنه ظهرت له قواعد مشتركة تتجاوز المذاهب الكلامية والفقهية، كما بدا في علم أصول الفقه. وصار الجدل الفقهي، والاختلاف الفقهي، جزءًا من الحرية والسعة التي تمتع بها الفقهاء، حتى إذا اشتد الاختلاف أو التنافس وجدنا فقهاء متشددين مذهبياً أو اجتهادياً في العادة، يقدمون على الدفاع عن التقليد الفقهي العام، وأن التقليد الفقهي المذهبي الذي كان متأزماً بالفعل، سرعان ما انفتح، وقد شاركت في صنع انفتاحه التيارات الثلاثة: أهل التقليد المذهبي الذين اضطروا للإفادة من حملات السلفيين والإصلاحيين، وعملوا على التجديد من ضمن الاستمرارية- والسلفيون الذين أكثروا من الاعتماد على الحديث والآثار، وأفادوا من التقليد المذهبي بطرائق انتقائية معتبرين ذلك حقاً لهم وعملاً من أعمال الاجتهاد- والإصلاحيون الذين أكثروا من الاعتماد على مقاصد الشريعة لتسويغ إنتاج المؤسسات الحديثة، دون أن يستغنوا عن الآليات القديمة وبخاصة القواعد الفقهية. إنما الملاحظ أن أرباب تجديد التقليد ظلوا الأكثر إنتاجاً، والأكثر منطقيةً في الوقت نفسه.

مسارات الإصلاح

وعرض الأستاذ الدكتور عبد المحمود أبو إبراهيم ورقة بحثه بعنوان "مسارات الإصلاح في الفقه والأصول"؛ بدأ بتمهيد عن مسيرة الاجتهاد عند الفقهاء والأصوليين، ثم تحدث عن مسارات الإصلاح في الأصول، فجعلها أربعة مسارات، المسار التجديدي، كما عند الإمام الغزالي والإمام ابن تيمية، وذكر أن الإمام الغزالي ركز على الأحكام وأدلتها وكيفية استثمار الحكم، أما الإمام ابن تيمية فقد اهتم بالمقاصد. إلى جانب المسار التأسيسي، والذي يهدف إلى تأسيس منهج أصولي جديد يتجاوز الجدل اللفظي والإيجاز، والذي سماه الدكتور خليفة بابكر بالاتجاه الأكاديمي، ويهدف إلى ربط القواعد الأصولية بالفروع التطبيقية، والمسار المنهجي: ويتلخَّص في الدعوة لتوسيع مفهوم الاجتهاد، وتحويل الإجماع والاجتهاد والشورى إلى مؤسسات، وهو ما تمثله المجامع الفقهية، والمسار الفكري، والذي يستند إلى كون الفكر الإسلامي وثيقَ الصلة بعلم الأصول؛ لأن عقلية المفكر المسلم تشكلها الأصول والمبادئ الإسلامية والمقاصد الشرعية.

النظرية الأصولية

وفي ختام الجلسة الصباحية، عرض الأستاذ الدكتور محمد كمال إمام بحثا بعنوان "الحكم الوضعي في النظرية الأصولية"، مبتدئا ببيان الحكم الشرعي وحقيقته وبيان بعض الملابسات المرتبطة به. ثم عرج على بيان الحكم الوضعي وأقسامه، وقد بين جملة منها من خلال النقل عن بعض الأصوليين من المتقدمين والمتأخرين. ومنه ساق الحديث عن السبب بأقسامه وتفاصيله وكذلك الشرط والمانع تحت عنوان أقسام الحكم الشرعي إلى أن يصل مقام الحديث عن الفوارق الجوهرية بين الحكم التكليفي والوضعي، وقد ساق الباحث جملة من الفوارق بين العنصرين وبين حقيقة ذلك بينهما.

تعليق عبر الفيس بوك