اختلال العالم

ناصر محمد

يتميز الكاتب والروائي اللبناني "أمين معلوف" بقدرته على الرقص في ألغام الانتماءات والأيديولوجيات، فمن الصعب على القارئ أن يحدده في فكر معين، فكلما تقرأ له وجهة نظر عن حادثة معينة أو فكر تجده يذوّب الحدود بينها وبين نقيضها بنزعته الإنسانيّة المتسامحة، وهذا التسامح في حرب الخنادق لاتؤتى حججه من خلفيّة رومانسيّة ساذجة بقدر ما هي حجج عقلية علمية تاريخية تحاصر العقول المنغلقة في تابوهاتها العميقة، وتحرج كل متمسك بثأر أو حق يكون التحصيل عليه على حساب الآخر.

من الصعب أحيانًا أن يجمع الكاتب بين عملين يكون مبدعا في أحدهما مثل الرواية ويكون الرهان في قدرته على الاحتفاظ بنفسه الروائي المتسامح عند استلام القلم في الفضاء السياسي، فالروائي الروسي "دوستويفسكي" مثلا تجده مختلفا حين يتعامل في مقالاته مع الشأن الروسي في حربها مع الأتراك وأوروبا، فهنا يغيب قليلا ذلك الحس الإنساني الصوفي لينتقل إلى نزعة قومية متطرفة اتجاه الأقوام المعادية لروسيا، وخذ نفس المثال للروائي الفرنسي "لويس فرديناند سيلين" (1894-1961) المعروف بقدرته البارعة في التقاط الانفعالات الإنسانية وتجسيدها روائيا، والمعروف كذلك بمعاداته للسامية من خلال مقالاته في ثلاثينيات القرن العشرين. أما "أمين معلوف" فقد جمع الحسنيين : التسامح والإبداع الروائي والسياسي، ويتضح ذلك في كتابه "اختلال العالم" المنشور عام 2009 وهو المكمّل لمقالاته المجموع في كتاب "الهويات القاتلة" ما بين 1998-2002م.

يتناول كتاب (اختلال العالم) أربعة محاور رئيسة: الأول عن "الانتصارت الكاذبة" والثاني عن "الشرعيات الضالة" والثالث عن "التيقنات الخيالية" والأخير عن "عهد سابق للتاريخ مفرط الطول". في الانتصارات الكاذبة، يعرض الكاتب التغير الذي لحق بالعالم بعد انهيار جدار برلين، والذي كان من المتوقع أن تنهار معه كل الأنظمة الموجهة للاقتصاد والإنسان، ولكن عند إلقاء نظرة عن كثب يتضح ضلال هذه المسارات عن الطريق، فمنذ أن سقط الجدار وأميركا تتدخل في العالم منذ قضية "بنما" في بداية التسعينيات و"هاييتي" مرورا في بداية الألفية بغزو أفغانستان والعراق، وكذلك الحال في أوروبا منذ أن هبت رياح العولمة في التسعينيات ونشوء الاتحاد الأوروبي والتي لم تعولم معها قضايا الأقليات والهويات والانتماءات المختلفة على أرضها، إذ ما تزال فرنسا مثلا تصف الجزائريين بالـ "فرنسيين المسلمين". ناهيك عن تصاعد التيارات اليمينية ونسب الإشكالية الإرهابية إلى الإسلام كدين وليس كممارسة. وربما يعزو الكاتب ذلك إلى بقاء المركزية الأوروبية كشعور في الذهنية الغربية، وتوجس الخوف من الحضارات الصاعدة الآن مثل الصين والهند مما يجعلها خائفة على إرثها وهويتها واقتصادها، إذ كان من المفارقة أن تهيمن على العالم بأدواتها الحداثية ويكون التنافس معها بنفس الأدوات خاصة في ظل غياب الايديولوجيات وبعث الموروث الثقافي. ويقسّم معلوف الأخلاق الأوروبية إلى قسمين: الأخلاق المسكونية الكونية التي يفترض أن تنشر إلى العالم والأخلاق البيضاء المسكونة بالتوجس.

ويسترسل معلوف في "الشرعيات الضالة" عن انحراف الديموقراطية عن طريقها، فصندوق الاقتراع الذي يفترض أن تحترم أمامه الاخلاق الكونية في الانتخاب لم تجد هذا الاحترام، فهي، وإن كانت تتميز بالشفافية في الاقتراع، إلا أنّ من وضعت الثقة بهم لم يكونوا عنوانا حقيقيا لإرادة شعوبهم، ومن الغريب أن أمريكا وهي المجسدة للديموقراطية داخليا تتخلى عنه في الخارج، فهي في ممارساتها السياسية تضرب عرض الحائط بتلك المحاولات في الدول الأخرى لرفع راية التعددية والديموقراطية مثلما حصل مع "مصدّق" في إيران أيام الشاه وتدبير الانقلاب من قبل المخابرات الأمريكية وذلك خوفا على مصالحها على الرغم أنه يميل للكتلة الرأسمالية، وكذلك حماية أمريكا للديكتاتوريات في الشرق الأوسط وانتقائها الممنهج لبعض الأنظمة وغزوها بحجة ديكتاتوريتها وإبقاء الأخريات لمصالحها. ويضيف معلوف أن الأزمة في الألفية الجديدة هي فقدان شرعية السلطة، فسابقا عندما كان الزعماء يبرزون في حروبهم ضد الاستعمار وتقودهم تلك المبادئ الثورية والتحررية التي تفاعل معها حتى المفكرون والأدباء الغربيون، كانت الشرعية موجودة ومثالها الأكبر الزعيم المصري "جمال عبدالناصر "في النسخة العربية و"أتاتورك" في النسخة التركية، لكن عبدالناصر الذي ألهب الجماهير المتعطشة لاسترداد كرامتها لم يكن حاميًا للتعددية بقدر ما كان موجهًا الجماهير نحو الإمبريالية وخلاصتها إسرائيل، وتمت تصفية المشتبه فيهم من الحركات الاسلامية كسيد قطب ومصادرة الأراضي بداعي الإصلاح الزراعي، وفوق كل ذلك هزيمته أمام اسرائيل الذي أعقب انتصاره "غير الحقيقي" على العدوان الثلاثي عام 1956م، ويبين معلوف أنّ الشرعية مهمة جدا في انقياد الشعوب خلف زعيمها ولكن الإشكالية حين يكون الزعيم غير مسكون بالقيم المسكونية الكونية بقدر ماهو مملوء بشوفينية ضد غير العربي. أما "أتاتورك"، فقد كان من الطبيعي أن توافقه الأمة التركية في مسيره على الرغم من تطرفه العلماني ونزع الأسلمة من الثقافة التركية عند رئاسته، فهو الذي رد للشعب التركي كرامته عند تقسيم امبراطوريته الزائلة في معاهدة فرساي، وهو، بإرسائه للنظام العلماني وانتصاره على خصومه، ابقاه رمزًا غير مهزوم في تاريخ تركيا، والذي مازالت تحافظ على علمانيته ولو بطريقة معدلة إلى يومنا هذا.

في "التيقنات الخيالية" يتطرق معلوف لموضوع مهم وهو الانتماء وضرورته لكل إنسان، وكيف أن هذا العصر هو عصر الانتماءات بحق خاصة في ظاهرة غياب الايديولوجيات منذ انهيار جدار برلين الذي يعتبر رمزا للحرب البرادة، إن هذا العصر باتت تحكمه العولمة التي جعلت من الثقافات متداخلة بطريقة سريعة وغير مسبوقة وخطيرة، ويستعرض أمين فكرة المؤرخ الكبير "توينبي" عن مراحل التاريخ الثلاثة وكيف أن الزمن تغير الآن وصار التطور غير متوازن بين الدول والشعوب، ويضع معلوف يده على أزمة هذا العصر الذي بات مهووسا بخطاب الكراهية، ويقول معلوف إن البعد الروحي للإنسان هو بعد مهم جدا ولا ينبغي التفكير بإزالته أو إدانته لمجرد سلوك اتباعه، فالناظر الى التاريخ يعلم ان الايديولوجيات زالت بينما الاديان باقية، ولكن الشعوب هي التي تصنع دينها وليس الدين الذي يصنع الشعوب، فالغرب مثلا المحكوم بالمسيحية سابقا لم توقفه المسيحية عن التقدم بقدر ماتصالحت المسيحية مع القيم الإنسانية الجديدة، وكذلك الحال مع الإسلام، فلا يستطيع أحد إنكار أن الدين سُيِّس من قبل السلاطين، ومر التاريخ الاسلامي بمراحل من التسامح كما مر بمراحل من التطرف والذي يؤدي إلى نتيجة وهي أن الإسلام قابل للدمقرطة عند الرياح الديموقراطية والتطرف عند الزوابع الأصولية، ويشير معلوف إلى أن الحالة الإسلامية مختلفة قليلا عن المسيحية، فالإسلام لا يملك مؤسسة تراتبية دينية زمنية مثل المسيحية كالكنيسة، لهذا مازال الحلم الاسلامي مؤجلا بسبب عدم تموضعه في السلطة مثل المسيحية، ويشدد معلوف على احترام التنوع الثقافي والانتماءات وكذلك بالمقابل احترام القيم الإنسانية التي تجمع جميع الشعوب تحتها، وذكر أن المستقبل محفوف بقضايا مشتركة مثل تأزم المناخ والاحتباس الحراري، والتي راهن عليها معلوف برهان "باسكالي" في أنها، على الأقل، تجعل من المختلفين في حالة من الاتفاق الذي يقضي بإنشاء عالم بشري موحد.

يختتم أمين معلوف كتابه العميق "بضرورة ختام عهد سابق للتاريخ وهو مفرط بالطول مشحون بتشنجات الهوية وانطواءاتها الاثنية العمياء وأنانيتها المشهورة بقدسيتها أكانت وطنية أو طائفية أو ثقافية أو ايديولوجية".

تعليق عبر الفيس بوك