قصة حب إيرانية تحت مقص الرقيب!

ليلى البلوشي

حينما انتهيت من قراءة رواية "قصة حب إيرانية تحت مقص الرقيب" للكاتب الإيراني "شهريار مندني بور" ومض ببالي مباشرة معظم الروايات الإيرانية التي سبق وقرأتها، والتي كانت معظمها عبارة عن سير ذاتية ولعل أبرزها رواية " أن تقرأ لوليتا في طهران" للكاتبة " آذر نفيسي" ورواية "بنات إيران" لناهيد رشلان. هذه الروايات الثلاث تلتقي أرواحها فكل منها تسرد تفاصيلها من الثورة الإيرانية وما تلقاها من مواقف أشبه بصدمات عرفت جيدًا كيف تحول أزمتها إلى مشروع مبدع سواء أصبح كتابا أو فيلما أو حتى نيل جائزة عالمية.

وقد أقرت الروائية "آذر نفيسي" في روايتها بذلك حين اعترفت في لحظة صدق: "أريد أن أنجز كتابًا أشكر فيه الجمهورية الإسلامية على كل الأشياء التي علمتني؛ فقد علمتني أن أعشق "جيمس" و"أوستن" والآيس كريم والحرية." والرواية كتبت نفسها بتجسيد تلك الرغبة المكثفة!

مع الإيضاح أن كل من "آذر نفيسي" و"ناهد رشلان" خصصا الحيز الأكبر من روايتهما للمرأة؛ الحلقة الأضعف في إيران. والمحرك الأول والأساسي لكل الفتاوي التي تصدر من الجمهورية الإيرانية التي سعت برغبة عنيفة إلى تغيير المرأة الإيرانية وإعادة خلقها من جديد عما ألفوها في عصر النظام الملكي السابق "شاه" كأنهم يريدون إلغاء كيانها كليا ليعجنوها في صورة أخرى تكون أشبه بالدمية أو التمثال! في زمن الشاه حيث المرأة في عصره نالت ما لن تحلم بنيله اليوم قط في ظل حكم المرشد بل حتى مجرد تخيل تلك الحرية يعد إثمًا في الوقت الراهن!.

بينما رواية " شهريار مندني بور" تناولت مسألتين مهمتين خاصة وشاملة في آن. حيث إنه يصف معاناة الكاتب في إيران مع الرقيب، ومن ناحية أخرى معاناته التي تفغر عن رقابة من نوع أشد حين يكون موضوع الكتابة عن المرأة والرجل وعلاقة حب تربطهما في صفحات الكتاب!.

كما يذيل اعترافه في أحد السطور: "إن معضلتي هي أنني أريد أن أنشر قصة الحب التي سأكتبها في وطني وبخلاف العديد من البلدان، فإنّ كتابة قصة حب ونشرها في بلدي الحبيب إيران ليسا بالأمر الهين" ثم يتابع اعترافه بصعوبة كتابة حب في بلد كإيران بسخرية مبطنة وكأن مقص الرقيب على رقبة كلماته: "ففي أعقاب انتصار إحدى ثوراتنا الأخيرة التي أصمت الكون بصيحاتها للحرية بمساعدة أجهزة الإعلام الغربية للتعويض عن ألفين وخمسمائة سنة من الحكم الدكتاتوري على يد الملوك - كتب دستور إسلامي ويسمح هذا الدستور الجديد بطباعة ونشر جميع الكتب والمجلات ويمنع ممارسة الرقابة عليها بشدة وتدقيقها لكن لسوء الحظ لا يذكر دستورنا ما هي الكتب والمنشورات التي يسمح لها بمغادرة أبواب المطبعة بحرية." !.

هناك رقيب بيده مقص يقطع ألسنة الحروف الطويلة ويقص أطرافها المخلة بالآداب! الكاتب هنا سمى رقيبه باسم مستعار هو" بورتفيري بيتروفيتش" المخبر المكلف بفك ألغاز الكلمات التي يقترفها على الدوام الكتاب؛ فهو يرى أن الكتاب أشخاص لا أخلاق لهم. مخادعون. غير مؤمنين عامة وبعضهم بشكل مباشر أو غير مباشر عملاء للصهيونية والإمبريالية الأمريكية، ويحاولون أن يلحسوا عقول الدراويش بحيلهم وألاعيبهم ولكن هيهات فأمثال السيد "بيتروفيتش" لهم بالمرصاد.!

يسمع صوت نصل المقصلة وهي تهوي على كلمة "رقص" لتكسر رقبتها وتأمر بفتح باب الجحيم لتلتهم بنارها كلمة "الرقص" وتحترق متفحمة وذلك قدرها ومنتهى جزاؤها العادل، فهي كلمة بذيئة، وتنم عن أفكار مفسدة لخيالات القراء!.

إن السيد "بيتروفيتش" دقيق جدًا في مهمته ومخلص تمامًا، ولهذا ليس من الاندهاش والغرابة أن يظل الكتاب حبيس مكتب "بيتروفيتش" سنوات طويلة تتجاوز خمسة وعشرين عامًا!.

أما المسألة الشاملة فهي تتشكل بكثافة حول الإنسان الإيراني بوجه عام، وما يعانيه في ظل حكم إسلامي جاء كثورة مباركة لتفرض نفسها كواقع مستديم مسيطر على كل ما له صلة بالإنسان الإيراني لدرجة حتى اختيار اسم أبنائه!. هذا الواقع المتشدد المخيب لآمال الجيل القادم من الشباب والشابات في إيران خلق فضاءً متشككًا مطبوعًا بازدواجية تطبعت بها حتى تصرفات الصغار، ولعل القصة المصورة للكاتبة الإيرانية "مرجان ساترابي" مثلتها بشكل جريء في كتابها الذي اسمته "برسبوليس" أو "بلاد فارس" حيث جسدت فيها مشاهد عايشتها طفلة صغيرة في ظل مجتمع فاقع الازدواجية ومتعدد الوجوه!.

نجح الروائي "شهريار مندني بور" في التقاط حبل الشكوك التي تتسلل في روح كل إيراني سواء أكان ليبراليا أو إسلاميا من خلال المشهد الأول من الرواية حيث تقف البطلة "سارا" قرب سياج قريب من جامعة طهران حاملة بيدها لافتة تقول: "الموت للديكتاتورية. الموت للحرية". فيتساءل الشباب الليبراليون عنها بقولهم: "من هي بحق السماء.؟ ماذا تحاول أن تقول.؟ " بينما الإسلاميون أعضاء من حزب الله ينظرون إليها شذرًا وبعبوس يقذفون تهمهم في حقها: "هذه الفتاة الفاجرة الفاسقة واحدة من هؤلاء الشيوعيين الذين عادوا إلى الحياة مرة أخرى فقد بدأ يشتد عود أخيهم الكبير في روسيا ثانية." وتتخذ هذه السخرية منحنى مشروخًا في روح المجتمع حين يكشف الكاتب اللثام عن الرقيب المسؤول عن عرض الأفلام أو منعها ما هو سوى رجل كفيف ومن خلال مراقبين يصفون له المشاهد التي تتراءى أمام حواسهم لينقلوها له كما هي وحينها يدلي برأيه عن المشاهد التي يجب قطعها. وفي الرواية يعيش رُهاب المشهد الجنسي الذي لا يراه إنّما يسمعه!.

ناهيك عن ظواهر الريبة الأخرى التي تخنق فيها السلطات الإنسان الإيراني، فينبغي عليك أن تفكر قبل أن تختار تسمية ابنك لئلا يكون اسماً له صلة بنظام ملكي سابق مثل "دارا" أحد كبار ملوك إيران قديماً!.

والنظام الجمهوري الإسلامي بولاية الفقيه معنيٌّ على ما يبدو بتفاصيل احتكار شخصية الطفل الإيراني منذ نعومة تاريخه الشخصي، فيسعون إلى زجّه في قالب واحد، يمر عبره كل طفل ليخرج منه طفلا مخبوزا بطابع إيراني إسلامي، وبالتالي يطمئن المرشد الأعظم على جودة جيل أشرف شخصيًا على إنتاجه وصناعته، ووفق الشروط التي يبتغيها تمامًا، فهم لا يكتفون بقائمة الأسماء المفروض على الأب اختيارها، بل أيضًا شمل ذلك مناهجهم الدراسية، ويسرد الروائي كيف أن هناك أسماء شخصيات اختفت من الكتب المدرسية؛ لأنّها ختمت بجرم تداولها في عصر الشاه، ناهيك عن التغيير الجذري الذي طرأ على رسوم كتبهم المدرسية، واستبداد اللون الأسود بكل وقاحة على عالمهم الصغير الملون بالبراءة!.

هذه الرقابة المستمرة جعلت الإيرانيين يبتكرون أساليبا مختلفة يستطيعون من خلالها العيش بفسحة أكبر داخل بلاد تسعى سعيا حثيثا إلى خنق وسحق وإلغاء إنسانيتهم بحجج تحمل في ظاهرها الدين ولكن في باطنها تفرض سلطتها المستبدة عليهم، لعل أبرزها كما كشفت الرواية مسألة الصحون التي تلتقط الأقمار الصناعية حيث الشرطة تداهم البيوت بمراقبتها عبر مروحيات إن تجاوز الصحن الفضائي قنواته الأربع التي بثت وفق مبادئ أخلاقية صارمة، ونتيجة ذلك قامت ورشات إيرانية سرية بتدوير قنوات أخرى وتوفيرها بعشرة دولارات، حيث اشتغل العقل الإيراني المبدع والخلاق كما يصف الكاتب في روايته، هذا العقل الذي يستجيب بسرعة وبفطنة عندما يتعلق الأمر بأشياء غير قانونية فقط استنبط وسيلة لإخفاء الصحون الكبيرة التي تستقبل هذه الأقمار، ويظل الإيراني يراوغ السلطات ويتصدى لها بخطط وأساليب أكثر مهارة وابتكارا!.

وبما أن الرواية حديث عن قصة حب، اختار الكاتب شخصيتين ليجسداها فتاة وشاب. "سارا" و"دارا" فيلقي الضوء الخافت على تفاصيل حبهما والذي بدأ مع كتاب "البومة العمياء" لـ" صادق هدايت" حيث يقوم "دارا" بابتكار وسيلة تواصل مع حبيبته "سارا" في وطن يضيق بالعشاق على رصيف واحد ولا ننسى طبعا مقص "بيتروفيتش"، يقوم دارا ببيع كتبه كي تشتري منه "سارا" كتاب البومة العمياء التي رغبت بشدة في قراءته، وحين يقع بين يديها بفضل "دارا" تجد بين سطوره حروفًا مبعثرة تجتمع في رسالة مذيلة تفوح بحب "دارا" ومن هنا تبدأ مغامرات عشق تحت مقص الرقيب.

الرواية بمجملها بحيزها الإبداعي الساخر تعبّر عن خيبة غائرة في عمق تاريخ كل إيراني لم يسند سقوط نظام مملوكي كفل لهم حريات شاملة في الحياة، الخيال، الفن، المسرح، الموسيقا، الرياضة والمرأة كل ذلك وأكثر، ولم يتوقعوا يوما أن تتلقفها عباءة سوداء عملاقة كأنها أخطبوط!.

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك