لماذا أصبحت التعددية نموذجًا للصراع الطائفي؟

عبد الله العليان

لا شك أن التعدد الثقافي قيمة عظيمة في الحضارات الإنسانية، باعتباره صيغة للتعايش والتواصل الحضاري الإنساني من خلال التعددية الثقافية؛ سواء داخل الحضارة الواحدة، أو مع غيرها من الحضارات والثقافات الأخرى؛ لكن للأسف انزلقت هذه القيمة الرائعة إلى طائفية مقيتة في بعض دولنا العربية، والبعض للأسف جعل من التعدد والتنوع مدعاة للاختلاف والتحارب والتصارع بين الطوائف، وتحّول هذا التعدد والتنوع إلى ما يشبه الانقسام؛ مع أنّ هذا التنوع والتعدد المذهبي والفكري لا يعني التنافر والتحارب، ولا يعني النفي والاقصاء المتبادل؛ وإنما يعني أنّه مع الإيمان بضرورة التعدد والتنوع ضمانا للحركة الفكرية الاجتهادية في الجزئيات، فإنّ ثمة ضرورة للفهم العقلاني لتأكيد تكامل الأفكار التي تتوحد حولها الأمة، أو العامل المشترك الإنساني الأشمل، وفي هذا تلتقي وحدة الأمة في القضايا العامة، وتبقى الفروع مجال حركة بين جميع المدارس الفقهيّة، كل يستقي منها ما يراه مناسبا لفهمه ومدرسته، ولذلك فإن التباين في هذا الشأن ليس عامل اختلاف وتنازع، بل حافزا لحركة قائمة على التفاعل في إطار فهم منطقي في الأمور الفرعية.

ولا شك أنّ هذا التنوع والتعدد في الفروع والجزئيات الذي هو مجال ثراء وإبداع حضاري وفكري، تحّول ـ كما أشرنا آنفا ـ عند البعض إلى احتراب وتنازع واقتتال، وهذا هو الخطر المحدق بأي أمة تتنازع فيما بينها في القضايا الفرعية الفكرية والسياسية، وعلى أسس طائفية. صحيح أنّ الآخر المختلف ساهم في تعميق هذا التوتر، وشجع الانقسام الأثني والعرقي في بعض مجتمعاتنا، بطريقته الاستعمارية المعروفة ( فرّق تسد)، لكننا نحن نتحّمل الجزء الأكبر من تعميق هذا الخلاف.

كما أنّ التنوع يعد حقيقة سسيولوجية قائمة في الفكر الإنساني سواءً كان هذا التنوع ضمن الحضارة الواحدة أو الحضارات المتعددة. ولذلك فإنّ قيم المجتمع نفسه تنظر إلى ثقافات الآخرين تلك النظرة المتسامحة بعيدًا عن الإقصاء والنبذ والكراهية.

ولا يعني أنّ القبول بالتنوّع والتعدد الثقافي سواء داخل الحضارة الواحدة، أو مع غيرها من الحضارات الأخرى يعني التقاطع مع "الانتماء الوطني ـ كما يشير محمد محفوظ حيث يسعى كل تنوع إلى الانفتاح على الدائرة المنسجمة معه تاريخيًا وفكريًا, حتى لو كانت خارج الوطني. وبالتالي من الضروري التمييز بين الانتماء والانفتاح.

إنّ انتماء الدوائر الاجتماعية هو إلى الإطار الوطني, والقيم الوطنية التي تحفظ العيش المشترك والوحدة الوطنية. وهذا لا يناقض بأي شكل من أشكال انفتاح هذه الدوائر مع الخارج, فالانتماء إلى الوطن ضرورة وطنية ومصيرية, كما أنّ الانفتاح على الخارج ضرورة مجتمعية.

وإذا عرجنا تاريخيًّا في فضاء الحضارة الإسلاميّة، وكيف تعاملت مع التعدد والتنوع في الدولة الإسلاميّة، فسنجد أنّ المسلمين عندما شيّدوا هذه الحضارة، عملوا على وحدة قائمة على التنوّع والقبول به باعتباره من سنن الفطرة الإنسانية. والدين الإسلامي اعتبر هذا التنوع والتعدد خلقة إلهية و "سنة" أزليّة أبديّة" قد فطر الله عليها جميع المخلوقات. فلم ولن يكون الناس نمطًا واحدًا أو قالبًا فردًا، وإنّما كانوا ولا يزالون مختلفين (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم) .( هود) 118، 119.

وإذا كانت الإنسانيّة والبشريّة قد بدأت بآدم وحواء ـ أمة واحدة، في الدين والشريعة ـ فإنّ تحول هذه الأمة الواحدة إلى أمم قد اقتضى التعددية في شرائع الرسل بتعدد أمم الرسالات، فكانت سنة التعددية منذ فجر تاريخ الإنسان.. (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغيًا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) ( البقرة : 213 ) (15) وهذا الاختلاف والتنوّع والتعدد في الفكر والثقافة جاء لحكمة ربّانية بالغة الدلالة، لأنّ هذا التنوّع والتعدد في الثقافة والميول والاتجاهات يعد دافعًا "للتنافس والتدافع والاستباق؛ انتصارًا من كل فريق لما به يتميزون، وما فيه يختلفون عن الآخرين.. ولو لم تكن هذه التعددية وهذا التنوع والاختلاف لما كانت حوافز الاستباق ودواعي التدافع وأسباب التنافس بين الأفراد والأمم والأفكار والفلسفات والحضارات، ولكانت الحياة سكونًا آسنًا، ومواتًا لا حيوية فيها، ولما استطاع الإنسان تحقيق مقاصد الأمانة التي حملها بالاستخلاف لاستعمار الأرض وعمران هذا الوجود. فالإيمان بالتنوع والتميز والاختلاف هو الحافز على الإبداع والتدافع في ميادين التقدم والعمران والارتقاء. بينما الاعتقاد بوحدة النموذج الفكري والحضاري هو باب التقليد والتشبه، ومن ثم السكون، وذبول ملكات الإبداع.

وهذه سنة طبيعية في البشر أن يتباين الناس في رؤاهم الثقافية والفكرية والسلوكية. وهذا الاختلاف نتيجة لتعدد الأفهام والمدارك والعقليات، والبيئة الفكرية والثقافية التي تعيش فيها الأمم والشعوب، وتستقي منها معارفها ومعطياتها وتراكم خبراتها الإنسانية. لذلك لا ضير من هذا التعدد والتنوع الثقافي سواءً ضمن الحضارة الواحدة أو الحضارات المتعددة، وهذا كما أشرنا عامل من عوامل الإثراء والإبداع والتقدم، الأمر الذي يؤكد ـ كما يقول محمد صادق الحسيني على دلالة " لا لبس فيها، وهي أنّ إعمار الكون ومنه الأرض وما عليها من رطب ويابس وحي وجامد، لم يكن ليتم كما هو حاصل لو أنّ البشر خلقوا سواسية في كل شيء، ذلك أنّ نتائج أفعالهم وممارساتهم وصنعتهم ومحصولهم لم يكن بالإمكان أن يأتي بمثل هذا التنوع المشهود والتمايز المعروف، ولخلت الأرض وما عليها من كل أشكال التزاحم والتنافس والتعارض الذي نعيشه بكل جوارحنا على امتداد طول حياتنا وعرضها".

ومن هذه المنطلقات فإن الحضارة الإسلامية اعترفت بهذا التنوع وأعطته المساحة الواسعة من التحرك والانطلاقة إلى آفاق رحبة ومتقدمة للتبادل مع الثقافات والحضارات الأخرى، ولذلك فإنّ الحضارة الإسلاميّة شجعت على التفاعل مع الثقافات والحضارات جميعًا. وإذا نظرنا إلى الإسلام من حيث مبادئه وتعاليمه الأصليّة، نجد أنّه هو أرقى الأديان في تحقيق مبدأ التسامح الذي هو القاعدة الأولى للتفاعل الحضاري.

وهذا في حد ذاته اعتراف بالآخر والقبول بالتنوع الثقافي والتعدد الفكري والديني. وقد يعتقد البعض أنّ التنوع والتعدد مدعاة للاختلاف والتنازع والاحتراب، لأنّ هذا التعدد ـ كما يعتقدون ـ يعني التباين، ويربطون بين هذه الفكرة الخاطئة، وبين ما يحصل في بعض البلدان من مشكلات إثنيّة وعرقية ومذهبية. وهذا في اعتقادنا من التصورات الخاطئة لمفهوم التنوع والتعدد، حيث إنّ هذا التنازع كان لأسباب ومسببات أخرى مختلفة، كالاحتقانات السياسية والقمع والإقصاء.. الخ، لكن التنوع الثقافي لا يعني "التنافر الإنساني المطلق، ولا يعني النفي الوجودي المتبادل، وإنّما يعني أنّه مع الإيمان بضرورة التعدد والتنوّع ضمانًا للحركة، فإنّ ثمة ضرورة للفهم العقلاني لتأكيد تكامل عنصر أو عامل التكافل الإنساني الأشمل، ووحدة الجوهر الإنساني. إنّ التباين ليس عامل هدم، بل حافز حركة قائمة على التفاعل في إطار فهم عقلاني ووحدة إنسانية. ومن ثمّ يكون ضروريًّا أن ندقق النظر في كيفية ترابط الناس بعضهم ببعض داخل مجتمع ما. ولذلك نحن نعتقد أنّ التنوع والتعدد سبق إليه الإسلام والحضارة الإسلامية من قرون خلت، ولم تكن فكرة التنوع والتعدد جاءت من الغرب الديمقراطي الليبرالي.

والإشكالية أنّ الكاتب يتهرّب من الغوص في المشكلات العرقية والمذهبية والاستعمار، ويتناسى أنّ هذه المشكلات جلها إن لم يكن أغلبها من صنع الاستعمار والاحتلال والاحتقان السياسي والبعد عن الديمقراطية الحقة.. صحيح أنّ بعض النخب السياسية أخطأت في كيفية التعامل مع هذه المشكلات، وقللت من أهميّتها حتى استفحلت، وأصبحت أوراقًا في يد من هم يودون أن تشتعل المنطقة العربية وتتحول إلى كيانات وكانتونات وأعراق ليس لها انتماء أو لون أو طعم والمستفيد الأكبر معروف ويشار إليه بالبنان.

تعليق عبر الفيس بوك