سيرة المنحورين باسم الجَمال (1)

عهود الأشخرية

الجمال قد يكون فعلا مؤقتا لا يستمر لوقت طويل، لأن هناك من يقترف إثم إبادته من الوجود، وقد يكون هذا الجمال متهمًا إلى الأبد بالخطيئة، ولا أحد يغفر أفعال أولئك الذين يسيرون في طريقه إلا العارفين بالجمال، المُقدسين له، ماذا لو افترضنا أنّ كمية الجمال بدأت بالتناقص إلى حدٍ كبير من هذا العالم.. أي توازن يُمكن أن يُعيد كل شيء سيرته الأولى، يمرّ الوقت وتتغير الوجوه؛ لكن في كل زمن يتكرر الجمال حتى وإن تغير شكله أو تجليه، وأيضًا مع كلّ هذا يتكرر أولئك الذي يستنكرون وجوده. فإلى أين امتدت هذه المأساة وربما تمتد أكثر فأكثر؟.

بداية مع الشاعر المتصوف الحسين بن منصور الحلاج، فأيّ ذنب اقترفه هذا الحلاج حتى تكون له نهاية بشعة كتلك؟ اتخذ الحلاج الروح الإلهية في حياته الروحية حتى ثار عليه فقهاء عصره، وكل أولئك الذين يفكرون بطريقة سطحية، لكنه نجا من الإعدام في المرة الأولى بفضل القاضي في ذاك الوقت لأنّه كان متفتحا وعلى دراية كافية وعلم بالفكر الصوفي، ولم يتهم الحلاج بالكفر كما فعل الفقهاء من عصره الذين لم يكن لديهم الوعي اللازم بالمتصوفة والعارفين بالله. الحلاج كان يؤمن بالتصوف إيمانا نقيا، صافيا، خالياً من أي شوائب في فهم هذا الفكر إلا أن الذين حاربوه لم يمتلكوا هذا العمق الروحي والتجلِّي في الخالق، مرّت حياة الحلاج في ربكة من حوله حتى تمّ القبض عليه والحكم عليه بالسجن لمدة تسع سنوات بسبب بعض الرسائل التي كتبها بشكل جريء جدًا في الأخلاق السياسية، قضى حياة مختلفة في هذا العمر المديد الذي قضاه في السجن، بعد التسع سنوات أُخرج من السجن وجلد بقساوة بشعة ثم بعد ذلك صُلبَ حيِّا حتى مات، ولم يكتفوا بهذا القدر من البشاعة لكنه بعد ذلك قُطعت رأسه، وأحرق جثمانه، وتخلصوا من بقاياه في نهر دجلة. كانت تهمته الكُفر والضلال بعيون من حكموا عليه بذلك، ما ذنبه إذا كان يعبد الله بطريقته الخاصة؟ ما ذنبه إن كان رأى ما لم يراه غيره من أولئك الذين حكموا على كل هذا الوعي المتقدم بالموت، أيّ رعب هذا الذي به تمّت إبادة روح لم يصلوا إلى ما أدركته من الإيمان، ومن الوصول إلى عمق درجات الروح، ولم يكتفوا بذلك أيضاً بل شوهوا سيرته أشد التشويه وجعلوه شيطانًا في وجوه الناس وألحقوا أبشع الأذى بمن تبعه في هذا التصوف. وهذا من أخلد أبيات الحلاج: " عجبت منك ومني.. يا منية المتمني/ أدنيتني منك حتى.. ظننتُ أنك أني".

انتقالاً إلى قضية الفلسفة والحرب القديمة ضدها، فقد تعرضت عبر امتداد العصور إلى صراعات قاسية وتهجم لا مبالي لاعتقاد الغالبية أن الفلسفة ضد الدين، أدت هذه الصراعات باتهام الفلسفة بأنّها ضد الدين رغم كل محاولات الفلاسفة لربط الفلسفة بالدين بشكل إيجابي وتوضيح التوافق بين هاتين الأداتين لفهم الحياة بالشكل المناسب، الفشل الكبير الذي لازم الفلاسفة جعلهم منعزلين عن العالم لأنّ الزندقة كانت التهمة الدائمة تجاههم.

يحيى بن شهاب الدين السهروردي كان من أبرز هؤلاء المقتولين بتهمة الزندقة، إن ما حدث له كان مختصرا للمأساة في حياة الفلاسفة، لكنها في أساسها كانت حراكا في الاتجاه الصوفي نحو حقيقة أكثر اتضاحا، وأقل حواجزا بين المرء وربه، أُتهم بالزندقة والكفر فأُمر بقتله (إن هذا الشهاب السهروردي لا بد من قتله ولا سبيل أن يطلق ولا يبقى بوجه من الوجوه)، ومن هذا المصير المأساوي الذي لاقاه السهروردي فإن كل نتاجه الفكري الفلسفي حُورب من قِبَل المعارضين له من فقهاء عصره، لكن الجدير بالذكر أن مؤلفات كثيرة بقيت له بفضل تلاميذه الأوفياء الذين فهموا عُمق هذا الفكر وصلاحيته ليبقى إلى أزمان بعيدة ومن هذه المؤلفات التي نحتت الفكر بشكلٍ أكثر اتساعا وأكثر بريقًا: التلويحات اللوحية والعرشية، المقامات الصوفية، اعتقاد الحكماء، اللمحات في الحقائق، وغيرها الكثير من الرسائل العلمية التي تتعمق أكثر في النفس والفلسفة والطريق إلى الخالق.

فبأيّ حق يُقتل الجمال من موطنه؟ ولم علينا دائمًا أن نكفّ عن التفكيير حين نقرأ قصص كهذه؟ إن الأمثلة متعددة والقاسم المشترك دائمًا أن السبب ليس مُقنعا؛ إنما فقط فكر أولئك المحدودي النظر، القابعين دائمًا في السطح البسيط الواضح لهم.

ملاحظة: هناك قصص أخرى بذات النطاق في مقالات قادمة.

تعليق عبر الفيس بوك