برنامج "الاتجاه المعاكس"

صالح البلوشي

أحدث ظهور قناة الجزيرة في ساحة الإعلام الفضائي العربي في الأول من نوفمبرعام 1996؛ نقلة نوعية كبيرة في تاريخ الإعلام العربي، وخاصة برنامجها المثير للجدل "الاتجاه المعاكس" الذي يقدمه الإعلامي السوري فيصل القاسم. ولأول مرة في تاريخ الإعلام العربي استطاع المشاهد العربي أن يسمع الآراء ووجهات النظر التي تخالف التوجهات الرسمية العربية، وأن يتعرف على "المعارضين" العرب وأفكارهم وآرائهم في القضايا العربية والدولية المختلفة بعيدا عن الإعلام الرسمي، الذي لا يقدم إلا بما توافق عليه الأنظمة العربية فقط، التي أعطت - ولا تزال- لنفسها الحق في اختيار ما يناسب المشاهد العربي وما لا يناسبه. وانتقلنا من مرحلة إعلام التطبيل والأغاني والأناشيد الوطنية، إلى الإعلام الذي يسعى وراء الكشف عن "الحقيقة" أيا كانت مصدرها. وإذا رجعنا إلى برنامج "الاتجاه المعاكس" فقد كان المشاهد العربي ينتظر بفارغ الصبر مساء الثلاثاء من كل أسبوع موعد عرض البرنامج، من أجل متابعة "الآراء الجريئة" التي كانت تُطْرَح لأول مرة في القنوات العربية، خاصة إن البرنامج كان يَعْرِضْ بدايةً مواضيع متنوعة تتسمة بالدسامة والسخونة في الطرح، واختراق اللامفكر فيه في السياق السياسي والفكري العربي. حيث شهد أستديو البرنامج المناظرة الفكرية الشهيرة بين المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد والدكتور محمد عمارة حول المحاكمة الشهيرة التي تعرض لها أبو زيد بسبب بعض آرائه الجدلية في بعض كتبه مثل "نقد الخطاب الديني" وكتاب "الإمام الشافي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية" وغيرها. وأيضا المناظرة بين الشيخ يوسف القرضاوي والدكتور صادق جلال العظم، والمناظرة بين العقيد الليبي الراحل معمر القذافي وبين المفكر المصري سعد الدين إبراهيم حول القومية العربية، وغيرها. ولكن سنة بعد أخرى بدأت لهجة قناة الجزيرة تتغير ومعها بطبيعة الحال هذا البرنامج، وتتجه إلى مسار آخر تتوافق بشكل كامل مع رؤية الدولة التي تحتضن القناة، وتقف ضد كل رؤية تخالف ذلك، فعلى سبيل المثال؛ كان الموضوع السوري بعيدا تماما عن اهتمامات برنامج "الاتجاه المعاكس"، حتى كان الحديث حينها يُتداول إنه بسبب جنسية مقدم البرنامج السورية وأمور أخرى. بينما أصبح الموضوع السوري خلال السنوات الأربعة الماضية وكأنه المحور الرئيسي للبرنامج، ورُبّ قائل يقول إن التحول الذي طرأ على البرنامج هو بسبب الأحداث هناك و "التدخل الإيراني" مع الحكومة، ومشاركة "حزب الله" اللبناني في القتال إلى جانب الجيش العربي السوري. ولكن الرد على ذلك إنّ قناة الجزيرة لا تتبع المعارضة السورية حتى تنحاز إليها بهذا الشكل الفاضح، فالمفترض إنها قناة إخبارية دولية مستقلة تحمل شعارا جذابا هو "الرأي والرأي الآخر". ولكن القناة ضربت بهذا الشعار عرض الحائط وأصبحت بعض برامجها وكأنك تشاهد إحدى قنوات "المعارضات" السورية، أمّا في الموضوع المصري فقد أصبح المشاهد لا يفرق بين متابعته للبرنامج المذكور وبين أي برنامج آخر في قناة "مكملين" الإخوانية المعارضة، وكذلك الوضع في تناول البرنامج للأحداث في ليبيا واليمن وتونس؛ فإنّه أصبح منحازًا بشكل كبير للأحزاب الإخوانية هناك. وفي المقابل فإن هناك من يرى عدم حدوث أي تحول في البرنامج، على أساس أنه يستضيف شخصين يمثلان رأيين مختلفين؛ ولكن من يُشاهد البرنامج ولو حلقة واحدة منه؛ يلاحظ الإنحياز الكامل للمذيع مع الضيف الذي يتفق رؤيته مع رؤية القناة. وأذكر أنه في إحدى حلقات البرنامج بعد الغزو الأمريكي للعراق؛ تمت إستضافة إحدى الشخصيات الكويتية - وأعتقد أنه كان المفكر الراحل أحمد الربعي- الذي قال للمذيع؛ بأنه جاء إلى البرنامج وهو يعرف تماما أنه يواجه خصمين وليس خصما واحدا فقط. وهذا ما يحدث للأسف في أغلب حلقات البرنامج، التي بالإضافة إلى الموضوع السوري، أصبح يضرب أيضا على وتر السنة والشيعة. وكأن قضايا العالم جميعها انتهت، ولم يبق إلا هذين الموضوعين فقط.

لقد صارت أغلب حلقات هذا البرنامج في السنوات الأخيرة أقرب إلى التهريج السياسي، والتحريض الطائفي. وغاب عنها التحليل السياسي المتزن، والمنهج الموضوعي في النقاش والاستدلال. ومما ساعد على ذلك انحياز مقدم البرنامج بشكل فاضح إلى أحد طرفي النقاش.

ومن الملاحظات على البرنامج أيضا أنه يطرح أحيانًا قضايا تحتمل آراءً كثيرة وخاصة في السياسة؛ التي لا تعرف الثابت؛ وإنما تدور جميع قضاياها في دائرة المتحول، ولكنه يطرحها أمام المشاهدين بحيث تبدو وكأنها تحتمل رأيين فقط لا ثالث لهما. وسوف أضرب مثالا على ذلك في حلقة هذا الأسبوع الذي أعلن عنه فيصل القاسم في مواقع التواصل الاجتماعي وهو: لماذا يضعون الجماعات التي تقول "الله أكبر" على قوائم الارهاب، بينما يغضون الطرف عن الجماعات التي تقول: "يا علي، ويا زينب"؟". فما هي الجماعات التي تقول الله أكبر وتم وضعها في قائمة الجماعات المحظورة؟ وما هي الجماعات التي تقول -حسب فيصل القاسم- يا علي ويا زينب؟ إذا كان القاسم يقصد من الجماعات الأولى داعش وأخواتها فإنّها لا تستحق وضعها في قائمة المنظمات المحظورة فحسب؛ وإنما تستحق المحاربة أيضا، حتى استئصالها من جذورها. فإنها قد طغت في البلاد، وأكثرت فيها الفساد. وشوهت صورة الإسلام في العالم بجرائمها البشعة. أمّا الجماعات التي أدعى القاسم إنّها تقول يا علي ويا زينب؛ فأنه أولا نسب إليها ذلك من أجل توصيل رسالة خاطئة إلى المشاهدين إنّها لا تؤمن بالله وإنما تَعْبُدْ هذه الشخصيات الإسلامية. ولا أدري ما هي الرسالة التي تريد قناة الجزيرة توصيلها إلى المشاهدين من وراء هذه العملية التشويهية المتعمدة؟ فهل هذه هي الحيادية والمهنية التي تتحدث عنها هذه القناة؟ مع العلم بأنّ كثيرًا من الأحزاب "الشيعية" المتطرفة وغير المتطرفة أيضا هي فعلا في قائمة المنظمات المحظورة، سواء في الولايات المتحدة والغرب أو في العالم العربي، مما يؤكد إنّ هدف البرنامج ليس النقاش السياسي والإستراتيجي؛ وإنّما الضرب مجددًا على وتر الطائفية بين المسلمين، وهو الهدف الذي تسعى إليه أيضا المنظمات المتطرفة التي يدافع عنها البرنامج.

تعليق عبر الفيس بوك