إلى روح (حمير) الطاهرة

عيسى بن علي الرواحي

وتمضي قافلة الراحلين إلى الديار اﻷبدية الخالدة دون توقف إلى ما شاء الله لها أن تكون، وقد شاءت إرادة من بيده اﻵجال أن يلحق بالركب أخٌ عزيز صالح وداعية جليل مصلح فقيد سمائل القاطن ببلدة الجناة بوادي بني رواحة حمير بن سليمان الرواحي ابن السادسة واﻷربعين تاركاً الدنيا الفانية بعد حياة عامرة بالصلاح واﻹصلاح واﻹيمان، ومخلفاً وراءه سحائب من الحزن واﻷسى على قلوب المحبين ومن عرفه؛ فقد هز نبأ رحيله كيانهم، وأحزن قلوبهم، وأسال دموعهم، وتعالت أصوات النحيب والبكاء بين أهاليه وأقربائه وأصدقائه، وصدق الشاعر إذ يقول:
نبأ تسلل للفؤاد وفجرا ** خطبا جليلاً حين أودى حميرا.
وقال آخر:
ماذا أقول لهول فقدك حمير **
فالقلب كاد من النوى يتفطر.
وقال ثالث:
خبر تكسر فوق صدري سهمه **
نزلت مرارة خطبه بين الورى.
لقد تسارعت اﻷحداث اﻷخيرة في مشهد رحيلك يا فقيدنا الغالي، ولم يكن يخطر على بال أن يكون وداعنا لك في مطار مسقط الدولي وداع الرحيل اﻷبدي من هذه الدنيا وصدق الله العظيم القائل: (...ِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [سورة لقمان : 34]
وهكذا فاضت روحك الطاهرة إلى بارئها في تلك الديار بعد تمام شهر من شدك الرحال إلى الديار المُقدسة ﻷداء مناسك العمرة، وقد صورها شاعر بقوله:
الهند تبكي مؤمنا بل مصلحا*
وافاه سهم الموت فيها قدرا

عيناه تنظر أرضه وملاذه*
ناجى الأحبة بالسلام ليذكرا

أنفاسه فاضت فأقفل راجعا*
وطوى الفراش إلى البلاد ليحضرا

والنعش طار مسافرا فوق السماء*
يبغي عمان وأهلها كي يُقبرا

لقد أجاد الشعراء في تصوير هول الفاجعة، وأبدعوا في وصف مناقبك أيها الفقيد العزيز، وإني ﻷعلم علم اليقين يا أبا يحيى أنك في غنى عن أبيات القصائد وكلمات المقالات إذ صرت إلى جوار ربك، كما أعلم أنّي لن أضيف إلى أهليك ومحبيك جديدًا جهلوه عنك؛ فقد كنت صفحة بيضاء مشرقة معلومة عند الجميع، وكانت فضائل أعمالك وجلائل تضحياتك ناطقة شاهدة وواضحة جلية لا غبار فيها ولا لبس، ولكن يأبى القلم إلا أن يهدئ من لوعة النوى، ويخفف من حرقة اﻷسى فيكتب فيك قليلاً من كثير، وفي ذلك اقتداء بالتوجيه النبوي في ذكر محاسن الموتى، كما أنّ تسطير جلائل اﻷعمال ﻷهل اﻷرض الطيبين نراه من أمانة الكلمة التي يتحتم علينا قولها وتدوينها ليعلمها من لم يكن يعلم عنها شيئًا، وليقتبس من ضيائها من أراد الاهتداء بنورها جيلاً بعد جيل، ولو لم يكن الحال كذلك فكيف وصلتنا أخبار الصالحين في كل زمان ومكان.
إنّ محافل الخير والدعوة والصلاح واﻹيمان في بلدتك الجناة وما جاورها من قرى كنت لها يا فقيدنا الغالي عنوانًا بارزا ونجمًا لامعًا وشعاعًا ساطعًا؛ حيث الجود بالجهد والوقت والمال، وها هي اليوم ستفتقدك ولا يمكن أن تنساك، وما من محفل خير ودعوة وصلاح إلا وسنتذكرك فيه بعد فقدك، وما أكثر ما سنتذكرك ونفتقدك!

ستفتقدك يا أبا يحيى جوامع وادي بني رواحة؛ حيث كنت في منابرها خطيبًا وفي محاريبها إمامًا وصدق الشاعر إذ يقول:
كنت الخطيب لنا وكنت إمامنا* فتركتنا فلمن تركت المنبرا.
سيفتقدك يا أبا يحيى جامع الرضوان ببلدة منال حيث كنت إمام المصلين فيه، ولكم كنت فيه وفي غيره من المساجد والجوامع إمامًا للمصلين مرتلا آي القرآن بصوتك العذب الذي ألفناه مذ كنّا صغارا.

ستفتقدك يا أبا يحيى العشر اﻷواخر من رمضان حيث لازمت الاعتكاف فيها سنين عديدة إلا ما قهرك من عذر أو أجبرك من أمر، ولكم أنس المعتكفون بمعيتك، ولكم كنت فيها ساجدا راكعا في جوف الليل تحذر اﻵخرة وترجو رحمة ربك، وقد أجاد الشاعر إذ يقول:
أبكي على رجل تعلق قلبه*
بالله لا يرجو سواه ويحذر.

وله أنين في الدياجي خاشعا*
والناس في رقداتها تتدثر.

سيفتقدك يا أبا يحيى مصلى العيد ببلدتك ومحرابه، وسيفتقد المصلون أصوات تكبيراتك وجميل تهانيك وخالص وعظك ونصحك وصادق دعائك، ولله اﻷمر كيف أنهم سيؤدون صلاة عيد الفطر من غير إمامتك وسماع خطبتك!.
سيفتقدك يا أبا يحيى سماحة الشيخ الخليلي ومشايخ العلم الأجلاء فقد عرفتهم وعرفوك، وكنت مع إخوانك وخلانك تزورهم بين الفينة واﻷخرى، وفي هذا يقول الشاعر:

كم مشهد كنّا نسير بصحبة*
فيه وقد عقدوا عليك الخنصرا

لمشائخ في العلم نستهدي بهم *
علمًا وإيمانًا وخلقًا نيرا

فبأيّ وجه يا أخي نلقاهم *
من بعد ما غادرتنا تحت الثرى
سيفتقدك يا أبا يحيى مهرجان عيد الفطر السعيد الذي يجمع الصغار والكبار على فقرات الأنس والبهجة والسرور وفق حدود الآداب واﻷخلاق والفضيلة، وقد كنت فيه معنا منذ انطلاقته عضوا بارزا وشخصا فاعلا.
ستفتقدك يا أبا يحيى الديار المقدسة والعرصات الطاهرة ومشاعر الحج العظام فقد كنت تحج بيت الله الحرام في كل عام، وكنت لمن معك من الحجاج الساعد اﻷيمن في خدمتهم وعونهم وشد أزرهم وعزائمهم ووعظهم وتفقيههم أمر دينهم وإرشادهم، ولا شك أنّ كل من رافقك في رحلة عمرة أو رحلة حج قد سطر في ذاكرته عنك مضاء العزيمة وقوة البأس وجميل الصبر وشدة التحمل وجهد المشقة والعناء في جهاد الحج وخدمة الحجاج، ولمن يقرأ هذه السطور وهو لا يعرفك وجب علينا أن نقول بأنّ هذا الفقيد لم يكن صاحب حملة حج ولا شريكًا فيها؛ وإنما تغلغل في وجدانه وسكن في أعماقه ووقر في قلبه حب الحج وخدمة حجاج بيت الله الحرام وهو يرجو عند الله ثواب الصبر والمشقة، يقول أحد الشعراء عنه:
كريم الطبع مقدام صبور*
و لم تعبث بهمته السنون.

سيفتقدك يا أبا يحيى الدرس اﻷسبوعي بجامع الشيخ أحمد بن حامد الراشدي، كما ستفتقدك حلقات العلم ومحاضراتها إذ كنت من أهل الحرص والدوام على كسب أجرها وفضلها.
ستفتقدك يا أبا يحيى أريج الطفولة لتحفيظ القرآن الكريم، وسيفتقدك المرابطون لحفظ كتاب الله صباح كل جمعة في ذلك الصرح القرآني، وسيفتقدون وعظك ونصحك في تجمعاتهم ورحلاتهم، ولكم كنت لنا عونًا وسندًا ومرجعًا في كثير مما يعني أمر هذه المدرسة القرآنية.
ستفتقدك يا أبا يحيى الجمعية الخيرية التعاونية ببلدتك إذ كنت لها رئيسا ومسؤولا عن أعمالها ومشاريعها الخيرية.
ستفتقدك يا أبا يحيى حفلات عقد القران في بلدتك وما جاورها من قرى؛ إذ كنت في كثير منها عاقد القران وأول المهنئين لمن رزقه الله الزواج.
سيفتقدك يا أبا يحيى أهل بيتك وأرحامك وجيرانك وأصحابك وأصدقاؤك وأبناء بلدتك وولايتك، سيفتقدون طلتك البهية ووجهك الوضاء وابتسامتك الندية وهمتك العالية ورحابة صدرك وصفاء قلبك يا من كسبت ودهم وسكنت قلوبهم، وصدق الله العظيم القائل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا) [سورة مريم : 96]

إنّ من عرف سيرة الفقيد الراحل ولازمه عن قرب، وعايش لحظات وصول نبأ رحيله، وحضر مشهد جنازته، وأقام في مجلس عزائه، واستمع إلى خطبة الجمعة ببلدته بعد وفاته إذ أبلغ خطيبها في الوعظ وبكى وأبكى؛ ليتجلى له بوضوح أن الكرامة هي الموت على الاستقامة، وأن الصحبة الصالحة هي خير معين للمرء في حياته وبعد مماته، وأن قيمة المرء وأثره في قلوب العباد في طاعته لله والقرب منه وفيما يقدمه للناس من أعمال وخدمة مصالحهم، وإنا لنحسب أن فقيدنا خير الناس إذ كان أنفعهم للناس، ولا نزكي على الله أحدًا، سائلين الله تعالى أن يرحمه، ويسكنه فسيح جناته، ويلهم أهله وأصحابه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك