التعليم.. معالجة الواقع أولا

برزت مسألة تطوير التعليم في السنوات الأخيرة كواحدة من أهم القضايا المطروحة في المجتمع؛ لأهمية دراستها ومعالجة الاختلالات التي تكتنفها، والبحث في طرق معالجة ضعف المخرجات التعليمية لما لها من تأثيرات مباشرة على المردود التنموي بشقيه البشري والإنتاجي..

وتواصلا للاهتمامات السامية بالتعليم باعتباره عصب النمو، ووقود التقدم، صدرت التوجيهات السامية لجلالة السلطان في خطابه أمام مجلس عمان في 2012، بإجراء مراجعة وتقييم شامل للعملية التعليمية لتطوير المنظومة بشكل عام من خلال تلافي التحديات التي تواجهها ومعالجتها.

وفي ذات الإطار جاء تأسيس مجلس التعليم ليضطلع بدوره في رسم الخطط والإستراتيجيات التي تصب في معين تطوير المنظومة التعليمية.. والندوة الوطنية "التعليم في سلطنة عمان.. الطريق إلى المستقبل" التي اختتمت أعمالها الخميس المنصرم؛ تأتي في سياق متصل مع هذا الاهتمام.. وقد عكس الحضور النوعي والكبير لأعمال الندوة مدى الأهمية الكبيرة، والآمال العريضة التي يعلقها الجميع على الندوة في التوصل إلى معالجات هيكلية لكافة الاختلالات التي يعاني منها نظامنا التعليمي من أجل تصحيح المسار..

حيث لم تقتصر المشاركة في الندوة على الرسميين، بل شهدت مشاركة مجتمعية ملحوظة وفاعلة؛ الأمر الذي عكس مدى اهتمام المجتمع وإيمانه بأهمية تطوير التعليم وتجويده لتعزيز مسارنا التنموي.. ورغم ثراء الندوة التخطيطي للمستقبل بتركيزها على الرؤية المستقبلية لعمان2040، وتلمس خارطة طريق مستقبلية لمستقبل هذا القطاع الحيوي، إلا أنّ ما يعنينا الآن هو عدم إغفال الواقع الراهن للتعليم، وإيجاد المعالجات الكفيلة بإقالة عثراته قبل السباحة في نهر المستقبل رغم أهميّتها للأجيال اللاحقة..

إنّ مناقشة خارطة الطريق لإصلاح مسار التعليم ينبغي أن تبدأ من وضع إطار واضح ومحدد لفلسفة التعليم والأجدر بها أن تكون في شكل نقاط قصيرة ومكثفة ومفهومة، وتعلق في كل مدرسة ليستوعبها جميع الشركاء في التعليم من معلمين وتلاميذ، وألا تكون عبارة عن إكليشيهات مطوّلة من الكلام الإنشائي بلغة كلاسيكية.

والبداية لكل ذلك يجب أن تكون اعتبارا من اللحظة الراهنة لأنّ موضوع تطوير التعليم أصبح أمرا ملحاً وآنيا، ويتطلب اتخاذ خطوات عملية ويتطلب تخطيطاً قصير المدى، يرتبط به تخطيط آخر طويل المدى. ومن هنا فإنّ ما يجب البحث عنه والتطرق له هو التحديات الأساسية التي تواجه التعليم اليوم وطرق تجاوزها.. وباختصار يمكن القول إن قضية التعليم تتمحور حول ثالوث المنهج والمعلم والطالب.

والسؤال: ماذا نريد من التعليم؟ ما هو المستوى المكافئ الذي نسعى إلى تحقيقه قياسا بالتجارب القائمة عالميا؟ وكيفية تحقيق ذلك.. والبرنامج الزمني لتحقيق ذلك..

اعتقد أنّ هذه هي المنطلقات الأساسية والبسيطة لأي خارطة طريق تستهدف تطوير المنظومة التعليمية.. وينبغي القول أولاً إنّ إصلاح التعليم يعني إيجاد منظومة تحقق مخرجاتها المعايير الدولية المطلوبة، بحيث يكون طلابنا في المراحل المختلفة في مستويات مقاربة لأقرانهم بالدول المتقدمة في التعليم مثل سنغافورة وكوريا وفنلندا على سبيل المثال..

لا شيء يمنعنا من ذلك ولكن علينا أولاً أن نوجه بوصلتنا نحو المستوى الذي نود أن نصل إليه في وجهتنا، والمعايير الدولية في ذلك معروفة لدى جميع من يعمل في الحقل التربوي وهي تنقسم إلى قسمين رئيسيين أولهما امتحانات التيمز(timss ( وهي الامتحانات الدولية لأداء الطلاب.. وتجرى كل أربع سنوات في مواد العلوم والرياضيات والقراءة. وقد شاركت عمان في امتحانات التيمز 2007 وبعدها في 2011 وكانت النتائج صادمة للجميع؛ والقادمة ستكون في العام القادم 2015، والتي لا اعتقد أنّ نتائجها ستكون بأفضل من سابقتها طالما ظلت المنظومة على ما هي عليه..

والمعيار الدولي الثاني هو معيار بيرسون "pearson" وهو مكمل للمعيار الأول حيث يركز على السياسات الحكومية في التعليم مثل عدد المدارس بالنسبة لعدد السكان، ونسبة حضور الطلاب وعدد أيام الدراسة وغيرها من معايير معروفة والتي تحقق السلطنة فيها نسباً معقولة نسبيًا مقارنة بالمعيار الأول.

إذن؛ ليكون تركيزنا على العمل بشكل جاد نحو رفع مستوى مخرجاتنا لتكون قادرة على منافسة المستويات العالمية، من خلال خطط قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى لتحقيق الأهداف المرجوة، فهناك أشياء يمكننا أن نغيرها بشكل مباشر ونلمس نتائجها فوريا وأخرى تحتاج إلى الكثير من الوقت لنلمس نتائجها..

ولمزيد من الإيضاح، فإننا لكي ننافس الدول المتقدمة تعليميًا، علينا أن ندرّس أبناءنا نفس المنهج المستخدم في تلك الدول وخاصة في المواد العلمية كالرياضيات والكيمياء والفيزياء باعتبارها علوما محضة بعيدة كل البعد عن الخصوصية ولا خلاف حول معطياتها ونتائجها..

إذن مهمتنا الأولى تتمثل في تطوير المنهج وتدريب المعلم القادر على إيصال محتوياته إلى عقول أبنائنا الطلاب، وهذا العملية - كما أتوقع - لن تستغرق طويلا فهي وعلى أسوأ الفروض تحتاج إلى ما بين 3 إلى 5 سنوات لاكتمالها. ولسنا مطالبين باختراع "الدولاب" من الصفر بل الاستفادة من الترجمة، وربما الاستفادة من تجارب دول مجلس التعاون في المناهج، واختيار ما يناسب تحقيق أهدافنا المرسومة. وأرى أن لتطوير المناهج أولوية قصوى ضمن خطة قصيرة المدى لإصلاح التعليم..

بعد أن ننجز مهمة إصلاح وتطوير المناهج، علينا أن نركز على خطة تطوير قدرات وإمكانيات المعلم القادر على شرحه، عبر جعل المهنة الرسالية أكثر جاذبية بالتحفيز المادي والمعنوي وتعزيز المكانة في المجتمع.

ولابد أن يتواكب تطوير المناهج جنبا إلى جنب مع تدريب المعلمين خلال المدى القصير والطويل عبر المركز التخصصي للتدريب المهني للمعلمين الذي يهدف إلى تمكين المعلم باعتباره شريكاً فاعلا في تطوير العملية التربوية من خلال توظيف أفضل الوسائل والطرق التعليمية ذات المعايير العالمية لتحقيق جودة التعليم.

ويمكن الاستفادة من الجامعات العمانية في برامج مكثفة تعمل على إعادة تأهيل المعلمين وخاصة خلال فترة الإجازات في دورات مكثفة.

وهناك حديث عن أهمية إصدار تصاريح لمهنة التعليم، وهذه تقع ضمن خطط المدى الطويل، أي أن يبدأ تنفيذها للمعلمين الجدد فقط وسنرى أنه خلال عشر سنوات سيكون كل المعلمين يحملون الرخصة كشرط أساسي لمزاولة المهنة.

ولا بد هنا من تبني زيادة معدل أيام الدراسة في العام لنكون مثل بقية دول العالم والذي يقارب تسعة أشهر، وأن تقلص الإجازات إلى ثلاثة أشهر منها شهران في الصيف وشهر ضمن الإجازات الأخرى خلال العام. وهنا يجب التذكير بسلبيات الإجازات الطويلة التي لا مكان لها في عالم الحداثة والجد والمثابرة، حيث تبيّن الدراسات الحديثة سلبيات الإجازات الممتدة على المتلقي وتوصي باستمرارية التحصيل العلمي.

يبقى أن نولي مزيدا من الاهتمام للتعليم ما قبل المدرسي ونتمنى أن يضمن في الخطة الخمسية التاسعة "2016-2020" ليدخل أبناؤنا رياض الأطفال في سن مبكرة تؤهلهم لدخول المدارس وتعلم أساسيات الكتابة والقراءة.

ولأنّ إصلاح التعليم مسؤولية الجميع، لابد أن يمارس الآباء مسؤوليتهم في تعليم أبنائهم ومتابعتهم عن كثب ليغرسوا فيهم حب العلم والتعلم، ومتابعة تحصيلهم والوقوف بجانبهم بشكل مستمر لإشعارهم بأهميّة العلم في الحياة.

إن جودة التعليم هو التحدي الأول للتنمية في بلادنا، وإن استطعنا أن نحقق معايير الجودة العالمية، استطعنا أن نخلق جيلاً مستنيراً قادراً على تجاوز تحديات المستقبل والمنافسة عالميا بكل ثقة.

تعليق عبر الفيس بوك