الفوضى الخلاقة.. العراق نموذجًا

حاتم الطائي

لكي نتمكَّن من الفَهْم الصحيح لما يحدثُ في العراق الآن؛ من صراعٍ دمويٍّ مُخيفٍ في طريقه للتحوُّل إلى حرب أهليَّة، علينا أن ننقِّبَ في الخلفيَّات؛ بالعودةِ قليلاً إلى الوراء، وتحديدًا إلى نُقطة الاحتلال الأمريكي لهذا البلد، والسياسة التي انتهجها المُحتل في سبيل تمكين رُؤاه -المُتمثلة في: "الفوضى الخلاقة"- وتصوُّراته للشرق الأوسط الجديد، التي تقومُ على: تعدُّد الدويلات، واستنساخ الكيانات؛ وفقا لتقسيمات عرقيَّة وطائفيَّة ومناطقيَّة، في مُحاولة لإضعاف دول المنطقة، وجعلها مُنكفية على ذاتها، أو مشغولة بصراعات داخليَّة، أو حُروب فيما بينها؛ بما يُؤدي في نهاية المطاف إلى إضعافها؛ وبالتالي تحقيق المبدأ الأمريكي الذي لا تُساوِم عليه إدارة من الإدارات المُتعاقبة على البيت الأبيض؛ والمتمثل في: صون أمن إسرائيل، وضمان تفوُّقها على جيرانها من العرب.

ونذهبُ إلى نُقطة أبعد من ذلك؛ بمُحاولة التعرُّف على طريقة تفكير الإدارة الأمريكيَّة، وكيف يتم اتخاذ القرارات الاستراتيجيَّة فيما يخصُّ: السياسة الخارجيَّة، والدفاع، والأمن، وما هي القوى المُؤثرة في سُلطة القرار السياسي هناك؟

من المُؤكد أنَّها ليستْ قرارات فرديَّة، بل مُؤسسيَّة، ومدعُومة مما يُعرف بـ"ضغط اللوبيَّات"، ذات المصالح المُختلفة؛ سواء: اقتصاديَّة، أو سياسيَّة، أو اجتماعيَّة. ومن أهم هذه اللوبيَّات القويَّة، والمؤثرة في السياسة الأمريكيَّة: "لوبي النفط"، و"لوبي الأسلحة، و"اللوبي الصهيوني"...وغيرها من مجموعات ضغط قادرة على حشد التأثير في سلطة القرار.

كما تعملُ السلطات ضمن استراتيجيَّات مدروسة بعناية، لها أهدافٌ مُعلنة -قصيرة، ومتوسطة، وطويلة الأجل- تحدِّدها المُؤسسات التشريعيَّة والاستخباراتيَّة الكبرى؛ مثل: الكونجرس، والبنتاجون، ووكالة المُخابرات المركزيَّة التي تعتمد على مراكز البحوث المدعومة من أرباب المصالح الاقتصاديَّة؛ مثل: صناعة الأسلحة، والدواء، والنفط...وغيرها؛ في شبكة مُترابطة ومُعقَّدة من تبادل المصالح.

ومن أكثر هذه المراكز تأثيرًا ونفوذًا: المراكز البحثيَّة؛ ومنها على سبيل المثال: معهد المؤسسة الأمريكيَّة -المعروف اختصارًا بــ(AEI)، المنظِّر الفكري للمحافظين الجُدد، والمعروف بتأثيراته على إدارات ريجان وبوش الأب، وتعاظم هذا التأثير في عهد بوش الابن -وبشكل جليٍّ- لدرجة أنه اختار العديد من كوادره من هذا المركز.

... ما أودُّ أن أخلصَ إليه هُنا، أنَّ السياسة الخارجيَّة الأمريكيَّة تعملُ بشكل استراتيجي ومؤسسي مدورس؛ لذا لا يُؤثر عليها كثيرًا اختلاف المُنفذين من الجالسين في البيت الأبيض؛ سواءً كانتْ: إدارة بوش الأب، أو الابن، أو أوباما؛ لأن هؤلاء يُنفذون سياسة مرسومة، مُعلنة وواضحة المعالم، ويتم التأكُّد من مُراجعتها من قِبَل لجانٍ مُتخصصة بالكونجرس، وتحديثها بشكل دَوْري.

وتُوْرِد هيلاري كلينتون في مُذكراتها "الخيارات الصَّعبة" -التي صدرتْ مُؤخرا- كثيرًا من دلالات تأثير العمل المؤسسي المرتبط بالمصالح الحيويَّة، كما أنَّها -وفي ذات السياق- تذكر أنَّها كانتْ تتلقى مُكالمات هاتفيَّة بشكل مُستمر من هنري كيسنجر وزير الخارجيَّة الأمريكي الأسبق؛ لتعزيز مسار السياسة الأمريكيَّة الخارجيَّة، خاصَّة في ما يخصُّ تعاملها مع تعقيدات قضايا الشرق الأوسط.

وكلُّ ذلك يُؤكد ما ذهبنا إليه بشأن العمل المُؤسسي المدروس، والمنهج المستمر الذي تسير عليه السياسة الخارجيَّة الأمريكيَّة، والتي تتأثر في مُنطلقاتها ومرجعيَّاتها بـ"اللوبيَّات" الفاعلة في المشهد السياسي الأمريكي، كما أنَّ هذه السياسة تحتكمُ في بُعدها الآخر بالمصلحة الأمريكيَّة المحضة. وهُنا؛ تصحُّ العبارة المُتداولة بأن الصَّداقة في الفهم الأمريكي تأتي في تراتيبيَّة مُتأخرة بعد المصلحة، والتي تتحكمُ في بُوصلة العلاقات الأمريكيَّة مع الدول الأخرى.

ونعودُ مرَّة أخرى للشأن العراقي؛ لمُحاولة تحليل ما يحدثُ هناك، في ظلِّ تصدُّر انتصارات تنظيم الدولة الإسلاميَّة في العراق والشام "داعش" للمشهد السياسي.. واكتساحه العسكري الواسع لأجزاء كبيرة من هذا البلد.

ورغم التحرُّك الصادم لـ"داعش"، إلا أنَّ فهم الأمر بصورة شموليَّة يتطلَّب أكثرَ من مُجرد التركيز على جزء واحد من المشهد الكلي لهذا البلد، والذي طالته التشوُّهات جرَّاء التدخلات السياسيَّة الإقصائيَّة، ومزَّقته الحُروب والصِّراعات التي أشعل فتيلَها الاحتلالُ الأمريكي لبلاد الرافدين.

وبالعودة إلى الوراء قليلاً، نتذكَّر اللقاء التاريخي الذي جمع -آنذاك- وزير الخارجيَّة العراقي طارق عزيز، ونظيره الأمريكي جيمس بيكر، في يناير من العام 1991، عندما رَفَضَ طارق عزيز استلام رسالة الإنذار مُعتبرًا إيَّاها غير لائقة على أقل تقدير في العُرف الدبلوماسي، خرج جيمس بيكر ليُعلنها على رؤوس الأشهاد بأن "أمريكا ستعيد العراق إلى العصر الحجري". ومُنذ ذلك التاريخ -أيْ على مَدَى أكثر من عشرين عامًا- لم تفعل الولايات المُتحدة سوى تنفيذ هذا الهدف الاستراتيجي، الذي صرَّح به بيكر علناً للصحافة العالميَّة.. إنهم يُعلنون بصراحة وشفافية أهدافهم.. وإذا حاولنا الرَّبط بين الأحداث المتتالية، نجد أنَّنا إزاء مُسلسل أمريكي طويل، لا يعرف سوى التهديد والعنف.

... بَعْدَ الدَّمار الكبير الذي أحدثه بوش الأب في العراق، جاء بوش الابن ليُواصل مُسلسل الدَّمار هذا في حلقة جديدة من سيناريو إعادة العراق إلى العصر الحجري؛ ليغزو بغداد بكذبة "أسلحة الدَّمار الشامل"، وفريَّة العَلاقة بين القاعدة وحزب البعث -الذي كان حاكمًا وقتئذ في العراق- وهذه المرَّة دُون مُوافقة مجلس الأمن. وأول قرار اتخذه الحاكم العسكري الأمريكي بعد احتلال بغداد؛ هو: حل الجيش العراقي، الذي كان يضمُّ مليونًا ما بَيْن ضابط وجندي؛ ليُصبح كلُّ هؤلاء في يوم وليلة عاطلين عن العمل، ولا يملكون قُوْت يومهم. والهدف هُنا: تحويلهم إلى أعضاء في عصابات مُسلحة، تقاتل من أجل ضمان لقمة العيش. بل أصبح العراق بدون جيش نظامي مُحترف للدفاع عنه وصيانة وحدته.

وهذا ما لاحظه الجميع حين اجتاح مُسلحو "داعش" الموصل، بينما قادة الجيش يتركون مواقعهم.

وفي العام 2000، نشرتْ كونداليزا رايس دراسة في المجلة الأمريكيَّة المعروفة "فورين أفايرز"؛ تحدَّثت فيها -وللمرة الأولى- عن أهميَّة غزو منطقة الشرق الأوسط؛ للسيطرة على منابع النفط، ورسم حُدود جديدة. هذه الأفكار التي بلورتها وطوَّرتها فيما بعد في مفهوم "الفوضى الخلاقة"، والتي قدَّمت لها شرحًا في حوار لها نُشر في صحيفة "الواشطن بوست" -مطلع 2006- بأنها تتمثَّل في تفكيك المجتمعات العربيَّة وفقاً لسيناريو يقوم على الطوائف الإثنيَّة والدينيَّة، الذي نظر له المستشرق اليهودي بيرنارد لويس -وغيره من المؤثرين في مراكز البحوث الأمريكيَّة- بأنه "تجزئة الدولة الوطنيَّة العربيَّة". وقد شهدنا ذلك يتحقَّق في السودان، وربما غدًا في العراق وسوريا...وغيرها من الدول؛ إذا أسعفتهم الظروف الداخليَّة هُناك.

كما واصلتْ كونداليزا الإفصاح عن مرامي ومُخططات السياسة الأمريكيَّة؛ حيث أعلنتْ -في مُؤتمر صحفي مع وزير الخارجيَّة الإسرائيلي، خلال الغزو الإسرائيلي للبنان، في يونيو 2006- عن بدء رسم خارطة للشرق الأوسط الجديد، تُعيد تخطيط الحدود، وتقسِّم الدول؛ لتنسجمَ مع أهدافها الإستراتيجيَّة، والتي هي بالطبع نفس الأهداف الإسرائيليَّة؛ باعتبار أنَّ أمن إسرائيل من الثوابت الرئيسيَّة في السياسة الأمريكيَّة، والتي تأتي بضغط من منظمة "إيباك" الصهيونيَّة، التي تُعد إحدى أهم قوى الضغط المؤثرة في واشنطن.

... إنَّ مُصطلح "الفوضى الخلاقة" يتمُّ تطبيقه منذ عدَّة سنوات في العراق، ولقد ساهمتْ الحُكومات المتعاقبة -إبان، وبعد رحيل الاحتلال الأمريكي- في تأجيج الصِّراع الطائفي؛ لتؤدي بذلك خدمة لنظريَّة "الفوضى الخلاقة"، التي تقوم على تفكيك العراق وتقسيمه، وِفْقَ اعتبارات مذهبيَّة وإثنيَّة، وفي الوقت ذاته تخدم قُوى التطرُّف والتشدُّد -مُمثلة في: "داعش"- ذات الأهداف الأمريكيَّة باقتطاع جُزء من العراق لإقامة دولة ضعيفة تنضمُ إلى سِرْب الدول العربيَّة الأخرى المُنهكة جرَّاء الحروب والاقتتال؛ لتخلو الساحة لإسرائيل لتُعَرْبد فيها كيفما تشاء.. وهذه هي الغاية النهائيَّة لـ"الفوضى الخلاقة".

تعليق عبر الفيس بوك