استقبلَ القطاع الخاص العُماني -بارتياحٍ بالغٍ- ما أُعلن عنه من إجراءات لتنظيم سوق العمل، والحد من استقدام الأجانب؛ ومنها: إعلان شرطة عُمان السلطانية وقفَ إصدار تأشيرة عمل للأجنبي الذي سبق له العمل بالسلطنة ما لم يكن قد أكمل سنتين خارج السلطنة من تاريخ آخر مُغادرة له، على أن يبدأ تطبيق القرار اعتباراً من مطلع يوليو.
علاوة على ما تواتر من أنباء عن اعتزام الجهات المعنية دراسة وقف نقل الكفالة للعمالة الوافدة؛ بغيَّة وضع حد للحركة "المكوكية" لبعض الوافدين بين الشركات والمؤسسات، الذين لا يُراعون في ذلك إلا مصالحهم الشخصية.
... لقد عانى القطاع الخاص العُماني من ظاهرة حرية نقل الكفالة خلال السنوات الأخيرة، ويُواجَه أرباب هذا القطاع كلَّ يوم بنماذج من حالات عدم الولاء الوظيفي من قِبَل بعض الوافدين. وهذه النماذج تظلُّ عينُها على أية زيادات تلوح في الأفق؛ لتلهثَ خلفها من شركة إلى أخرى، ومن ثمَّ تذهب إليها بأسرار عملها الأول..! ويضطر صاحب العمل إلى الاستعانة بعمالة وافدة أخرى، وشبح عدم استقرارها يقض مضجعه.
ويتحدَّث الكثيرون عن "الدوران الوظيفي" للقوى العاملة العُمانية، ويتناسون أنه -وبموازاة ذلك- هناك دوران وظيفي للعمالة الوافدة؛ حيث يستغلُّ البعض ما يتيحه القانون من إمكانية نقل الكفالة من جهة إلى أخرى، والتساهل القائم في هذا الشأن؛ حيث لا اشتراطات ولا التزامات تحفظ لصاحب العمل -الذي استقدم هذا الوافد- حقه في الاستفادة منه بالكيفية التي تلبِّي حاجة السوق للاستقرار. وقبل ذلك، تكفل بيئة مُنتجة ومستقرة، بعيداً عن الابتزاز وعدم الولاء الوظيفي وخيانة الأمانة.
ومبعثُ الحماس الذي قابل به القطاع الخاص هذه التوجهات الجديدة -والتي كان بعضها معمولًا به في السابق- هو: الشعور بأنها قد تخفِّف من معاناته الناجمة عن فوضى تحرُّك العمالة الوافدة بين الشركات والمؤسسات، وما ينتجُ عن ذلك من تسرب لخطط وأفكار الأعمال، وإفشاء أسرار المهنة لأسباب أنانية، ومن مُنطلقات ذاتية ضيقة.
كما أنَّ الترحيب الكبير الذي صادفته تلك القرارات والتوجُّهات، يرجعُ في جانب منه إلى أن الكثيرَ من رجال الأعمال يُعانون من صعوبات نتيجة لسهولة الانتقال بين الكفلاء؛ مما يخلقُ واقعا غير صحيٍّ في سوق العمل.
والمعروف أن الشركات العُمانية تلجأ إلى استقدام القوى العاملة من الخارج من العديد من دول العالم التي تصدِّر العمالة إلى السلطنة؛ حيث إن صاحب العمل يتكبَّد العناء البدني والمادي من: مشقة سفر، واختيار، وإعلان، وإقامة في بلد تلك العمالة لأيام أو أسابيع، إلى جانب الاستعانة بشركات متخصصة ومختصين في الموارد البشرية لإعانته على اختيار الكفاءات التي يتعهدها بالرعاية والدعم؛ حتى تتكيف مع البيئة العُمانية، وتتواءم مع سوق العمل في السلطنة وتتعرف عليه. كما أنَّ صاحب العمل يتيح للوافد شبكة معارف حسب طبيعة عمله؛ ويذلل أمامه جميع العقبات؛ من: سكن، وصحة، ورخصة سياقة، وقرض ميسر...وغيرها من التسهيلات. وكل ذلك بهدف الحصول على أفضل أداء من الوافد، إلا أنه -وفي بعض الأحيان- يُصدم رب العمل -خلال عام وربما أقل- باستقالة الموظف الجديد، وانتقاله إلى شركة مُنافسة؛ من أجل زيادة "حفنة" من الريالات؛ لينقل (معه) جميع أسرار الشركة أو المؤسسة إلى أخرى منافسة، دون أمانة أو ولاء وظيفي للمكان الذي تعهده بالرعاية؛ ليتنكَّر له بعد أن شب سريعا عن الطوق، وليدلف إلى السوق الحر دون أدنى التزام بقواعد وأخلاق العمل، ودون تفكُّر فيما يمكن أن ينجم عن خطوته تلك من أضرار على الشركة الأم التي استقدمته من الخارج ابتداءً.
... إنَّ قصص الابتزاز التي تعرَّض لها الكثير من رجال الأعمال العُمانيين من قبل موظفيهم، أكثر من أن تُحصى. وقد عانينا جميعنا منها بلا استثناء، والمستفيد الوحيد هو الموظف الوافد "الانتهازي" الذي يتنقل بين الكفلاء، ويرتحل من مؤسسة إلى أخرى من أجل زيادة في الراتب دون أية اعتبارات أخرى.
ولا يقتصرُ الأمر على (مجرد) حالات فردية، بل يكاد يرقى إلى مستوى الظاهرة؛ إذ لا تكاد تخلو منها فئة من الوافدين بمختلف تصنيفاتهم الوظيفية والمهنية؛ من السائق وحتى الرؤساء التنفيذيين -باعتبار أن من يُقدمون على ذلك منطلقهم مادي بحت- لأنها عقلية واحدة تُعلي من شأن المادة دون سواها من عناصر المنظومة الحياتية الأخرى. وقد يكون مردُّ ذلك إلى ظروف حياتية صعبة، أو أوضاع اقتصادية قاسية، إلا أن كلَّ ذلك لا يُبرر ما نراه من تكالب على البحث عن جهة أخرى توفِّر له مزيدًا من المزايا المادية.
ولعلَّ في الإجراءات التي تعتزم الجهات المختصة تطبيقها، ما يُوفر كابحًا قانونيًّا لمثل هذه التصرفات التي لا تخدم الاقتصاد الوطني، بل تلحق الضرر بأهم مفاصله وهو القطاع الخاص.
وحتى لا أُتَّهم بالتجني أو التجاوز في حق الضيوف من العمالة الوافدة، أودُّ التأكيدَ على أن هناك الكثيرين ممن يلتزمون بالأخلاق والمروءة. إلا أن ضرورات تنظيم سوق العمل تتطلب أن يكون الكل ملتزمًا بتلك القيم، ومنصاعًا لمصفوفة القوانين التي تنظم وجودهم في البلاد، والوفاء بحق العمل الذي استُقدموا من أجله، وحقوق الجهة التي استقدمتهم، وهذا ما يحدث في الدول المتقدمة، والتي لا يُمكن أن نتخيل حدوث مثل هذه الممارسات فيها. وعلى سبيل المثال: دولة مثل اليابان؛ يُعتبر "الولاء الوظيفي" فيها شيئًا مقدسا لا يُمكن المساس به مقابل المال أو خلافه من وسائل الإغراء الأخرى.
وتشترطُ دولٌ -مثل: كندا، وأمريكا مثلا- على الموظف الذي يريد الانتقال من شركة إلى أخرى، إحضارَ رسائل من مرجعيته في الشركة القادم منها حول أدائه، وموافقتها الضمنية على انتقاله؛ لضمان استكمال أوراق انتقاله إلى الشركة الجديدة. وبدون ذلك لا يتم النظر في أمر توظيفه.
ولأننا دولة تشهد الكثير من المتغيرات في سوق العمل، لذا فلابد من تدخل المشرِّع لمعالجة تلك الظاهرة للحد من سلبياتها (وما أكثرها)؛ ومنها مثلا: ما نعايشه من حالات انتقل خلالها موظفون كبار من الشركات التي تعهدتهم بالرعاية عندما كانوا في أولى درجات السلم الوظيفي؛ ليُؤسسوا لأنفسهم شركات وأعمالًا خاصة بهم؛ اعتماداً على المعارف التي اكتسبوها إبان فترات عملهم في الشركة التي تنكَّروا لها بمنافستها في مجال نشاطها!
وأيضا ما نراه في "التجارة المستترة" التي تعد -في جانب منها- شكلًا من أشكال عدم التزام الوافد بالعمل في الوظيفة التي استقدم من أجلها، بل يسعى للاستقلالية من خلال تأسيس عمله الخاص، ملتفًّا بذلك على القانون، ومُلحقا الضرر بالاقتصاد؛ من خلال التحويلات المالية التي يقوم بها إلى الخارج (من جهة)، ومصادرة حق مواطن عُماني في إدارة هذا النشاط (من جهة أخرى).
... إنه في كل دول العالم، عندما يُستقدم وافدٌ للقيام بعمل معين، يعود إلى بلاده عند انتفاء الحاجة إلى خدماته. ومن النادر أن يُتاح له تغيير جهات ومجال عمله بالصورة التي نراها في بلادنا، رغم أننا أحوج من الدول الأخرى إلى الحرص على تطبيق ذلك؛ بسبب الاختلالات الهيكلية التي بدأتْ في الظهور بتنامي أعداد العمالة الوافدة إلى نسب تفوق الـ40% من إجمالي سكان السلطنة.
والمأمول أن تُثمر تلك الإجراءات والتوجهات عند تطبيقها على أرض الواقع، عن الحد من ارتفاع أعداد الوافدين، ومعالجة العديد من المشكلات الناجمة عن هذه الزيادة التي تبدو غير مبرَّرة.
ويُنتظر أن يدفع الترحيب المجتمعي الكبير بهذه الإجراءات والخطوات، الجهات القائمة عليها إلى سُرعة تنفيذها، ومُراعاة الدقة في تطبيقها؛ بما يكفل تحقيق الأهداف المرجوَّة منها.