إنَّ ما يعجُّ به واقعُنا العربيُّ المُعاصر -خاصَّة بعد ما يُسمي بـ"الربيع العربي"- من صراعاتٍ سياسيَّة؛ مؤشرٌ على غيابِ الفهم الصَّحيح لماهيَّة السياسة؛ باعتبارها "فن المُمكن"، وقدراتِه على الاستشرافِ الذي يجعلُ هذا المُستحيل مُمكناً.
وللأسف؛ لا يزالُ واقعُنا العربيُّ أسيرَ الفهم السطحيِّ للسياسة، وتصنيفها كـ"لُعبة قذرة"، ومُؤامرات ودسائِس، وكلُّ هذا من أجلِ سعي النُّخبة الحاكمة للحفاظِ على السُّلطة وفقَ قواعدَ الأمس، دُون اعتبارٍ لحركة التاريخ.
ويغفلُ المُتصارعون على امتدادِ الخارطةِ العربيَّة، أنَّ السياسة ليستْ كذلك؛ فهي البصيرة والرُّؤية القائمة على قراءة الواقع، ومعرفة إمكانيَّاته، وقدراته، وتوازناته، مصحُوبًا بقوَّة الإرادة، والإبداع، والابتكار؛ لتوسيعِ أُفق المُمكن.
كما يفتقرُ بعضُ السَّاسة العرب -على وجهِ التحديد- إلى الأفقِ الاستراتيجيِّ طويلِ المدى، الذي يجعلُهُم قادريْن على توظيفِ الحَرَاك المُجتمعي، وتوجيهه للطريق الصَّحيح؛ لخدمةِ مصالح البلاد والعِبَاد، بدلاً من تصنيفه في خانة المُؤامرات، والدَّسائس الخارجيَّة!
بالفعل.. لقد أصبحتْ السياسة فنًّا يجعلُ المُستحيل مُمكناً!
وفي كتاب "فن الحرب"، للحكيم الصِّيني سون تزو -وهو مُلهِم للكثير من الاستراتيجيِّين والسياسيِّين- يرى قمَّة الحكمة والتفوُّق في أنْ تحصلَ مِنَ الخصم على ما تُريد دُوْن قتال.. وهذه الأسطر التي سكنتْ مُخيِّلتي لسنواتٍ عدَّة، تُلخِّص -بذكاءٍ مُفرط- فنونَ إدارة الصِّراع في مُختلف المجالات، وتُعيْدُنا إلى التعريف الألمعي للسياسة بأنَّها فنُ المُمكن.
وغير بعيدٍ عن هذا المفهوم، يُعرِّف الواقعيُّون السياسة بأنها "التغيير الموضوعي للواقع؛ بناءً على استيعابِ جميع عناصره الفاعلة في التغيير، بعيدًا عن الهزَّات والمُغامرات غير محسُوْبة النتائج، مع مُراعاة أنَّ الواقع مُتحرِّكٌ تاريخيٌّ". ويكمنُ الفنُّ في قيادة هذا التغيير مع حركة التاريخ، وتوجيه دَفَّته ليستجيبَ لتطلُّعات المُجتمع.
ومن الخطأ الشَّائع: النظرُ إلى فنِّ المُمكن على أنَّه الخضوعُ للواقع السياسيِّ، والاستكانةِ له، وعدمِ السَّعي لتغييره؛ لأنَّ ذلك يتعارض مع تعريف فنِّ المُمكن.. تلك القاعدة الذهبيَّة التي تعني "التجسير المُستمر للفجوة بين الواقع والخيال، وبين المُتحقِّق والمُمكن تحقيقه، في تجسيدٍ حيٍّ للبصيرة القائمة على قراءة الواقع، وإدراك أبعاده تاريخيًّا وجغرافيًّا، والإلمام بتوازناتِهِ، مع اصطحاب قوَّة الإرادة التي توسُّع من مُمكناته، وتحُدُّ من مساحات الاستحالة".
والشاهدُ: أنَّ هُناك قادةً تاريخيِّين أدركُوا حِكَمة فنِّ المُمكن، وتشرَّبوا بالمعنى الإيجابي للمُفردة؛ فخلَّد التاريخُ أسماءَهُم وأفعالَهُم، بينما هُناك آخرون مِمَّن قادُوا شعوبَهم إلى الهَلاك والتدْمير على الرَّغم ممَّا كان تحت تصرُّفِهِم من إمكانيَّات ماديَّة وموارد طبيعيَّة؛ فضاعتْ هدرًا بفعلِ ضِيْق الأفق، وعدم القدرة على الاستشرافِ الحكيمِ للمُستقبل، وبسببِ الفَهْم المغلوط للسياسة؛ باعتبارِهَا لُعبة غير نزيهة، وليست فنًّا للمُمكن.
فهُم بذلك مُغامرون أساءوا إلى بُلدانهم، وضيَّعوا مُقدِّرات شعوبهم التي ذهبتْ أدراجَ الرِّياح، في حُروب عبثيَّة لا معنى لها، ومُغامرات طائشة.
وفي سياقِ مفهوم أنَّ "السياسة فنُّ الممكن"، تحضُرني تجربة ناجحة في العلاقات الدوليَّة اليوم، أودُّ الاستشهادَ بها هُنا، تتمثلُ في: التطبيع التجاري بين الصين وتايوان، والذي يُقدَّر حجمه سنويًّا بنحو مائة مليار دولار، رغم ما بين البلدين من تباينات سياسيَّة، واختلافات أيديولوجيَّة، إلا أنَّهما -فيما يبدو- يُطبقان قاعدة ذهبيَّة مُفادها أن "خلاف السياسة لا يُفسد للتجارة وُد"، في توظيف ذكي وبراجماتي لـ"فنِّ الممكن".
ومن هُنا، تأتي أهميَّة القيادة التاريخيَّة التي تمتلك البصيرة لتشقَ طريقها نحو آفاق أوسع، عبر رُؤية ثاقبة، ومن خلال فكر استراتيجي يقومُ على قراءة صحيحة للواقع بمكوِّناته الجغرافيَّة والبشريَّة، ولا تغفل مُعطيات التاريخ، مع التركيز على المستقبل.
والمتأملُ للقيادة التاريخيَّة للسلطان قابوس بن سعيد المعظم خلال الأربعة عقود الماضية، يجد أنَّ جلالته أدرك -ومنذ وقت مبكر من عمر النهضة المباركة- جوهر السياسة وقاعدتها الذهبيَّة، بأنها فن الممكن والمستحيل معاً؛ فقد تمكَّن -وعبر رؤية حكيمة، ونظرة واقعيَّة- من توظيف كل الإمكانيات لنقل عُمان من طور التقليديَّة إلى دولة عصريَّة، ومن التعليم تحت ظلال الشجر قبل أربعين عاماً إلى مدارس حديثة تعم مختلف أرجاء البلاد.
كما وظَّف جلالته الحكمة العُمانيَّة، في وضع سياسة خارجيَّة للسلطنة تقوم على يدٍ ممدودة بالسلام للجميع؛ مما جعل من السلطنة واحدة من الدول القلائل في العالم اليوم، التي ليس لها عداوات أو مشاحنات مع دولة أخرى، وأصبحت رمزاً للسلام، وصوتاً للتسامح العالمي. وكم من مساعٍ خيِّرة للسلطنة أثمرتْ عن تحولات إيجابيَّة في المشهد السياسي الإقليمي والدولي، وأدت إلى جلوس فرقاء إلى طاولات التفاوض؛ للبحث عن حلول لإشكالاتهم العالقة؛ توظيفاً لفن الممكن.
وكلُّ ذلك بفضل الحكمة العُمانيَّة، وبُعْد نظرها، وقدرتها على إقناع الآخرين بتلافي بوادر خلافاتهم، ووأدها في مهدها؛ حتى لا تعكِّر صَفو العلاقات، أو تؤثر في وشائج الصَّداقات؛ ناصحةً الجميع بتبنِّي أسلوب الحوار البنَّاء؛ انطلاقاً من الهدي القرآني "وَجَادِلْهُمْ بالتِي هِيَ أَحْسَن".
ومن الشواهد الماثلة على نجاعة البصيرة العُمانيَّة في ردم فجوة الخلافات على الساحة الإقليميَّة والدوليَّة: ما نشهده حاليًا، ونعيشه واقعاً من مُفاوضات مُباشرة بين القوى العالميَّة وإيران، التي قلصت حجم التوتر في المنطقة، ونزعت فتيل الحرب، وأوصلت إلى اتفاقيات تمهِّد الطريق لحل الخلافات (سلميًّا)، وتجاوز التراكمات السلبيَّة في العلاقات الأمريكيَّة-الإيرانيَّة.
نعم.. نجح المسعى العُماني في تحويل المستحيل إلى مُمكن، بجلوس الفرقاء وجهًا لوجه إلى مائدة تفاوض واحدة؛ بغيَّة الوصول إلى تفاهمات تعمِّق الأمن والسلم الدوليين، وتحفظ استقرار المنطقة.
... إنَّ التجربة العُمانيَّة في التعاطي الإيجابي مع السياسة -باعتبارها "فن الممكن"- لجديرة بسبر أغوارها، ودراستها بتعمِّق؛ بهدف التأصيل لها بوصفها نتاجًا لتراكم حضاري، تعزِّزه إسهامات الحاضر؛ حتى يأخذ مداه في المستقبل كممارسة إيجابيَّة، ونهج راقٍ لتعزيز المُنجز التنموي داخليًّا، وتكريس مكانة عُمان كدولة راعية للسلام ورائدة للتسامح عالميًّا.