وانطلقتْ رحلة السندباد

وأخيرًا، انطلقتْ "مكتبة السِّندباد المُتنقلة" في رحلةٍ تجوْبُ خلالها أرجاءَ السَّلطنةِ؛ برسالة تعزيزِ حُبِّ القراءة، وتأصيلِ شغفِ الاطلاعِ في نُفوسِ الأطفالِ والنَّاشِئَة.

... تحوَّلُ حلمُ المكتبة المُتنقلة إلى واقعٍ، بعد أنْ حَمَلناهُ في الخاطِر أربعَ سنوات أو يزيد، فِي دلالةٍ على أنْ لا مُستحيل مع العَزْمِ الأكِيد والنَّوايا الخالصة.

كُنَّا نعملُ على هذا المشروع، ونعُدُّه من صَمِيْم مسؤوليَّتنا الاجتماعيَّة، ورغم أنَّه كان يبدُو في وقتٍ من الأوقات حُلمًا بعيدَ المَنال، إلا أنَّه -ومَعَ الإرادةِ، والتَّصمِيم، والتَّخطيط، والصَّبر، والمُثابَرة- شقَّ طريقَه ليتحقَّق على أرْضِ الواقع، وتتجسَّد أمنية لطالما داعبتْ خيالي، وأنا أتصوَّر الحافلة وهي تشقُّ طريقَها في القُرى؛ توزِّع الكتبَ على الأطفال، وتُقيم حلقات القراءة للقَصَص والحِكَايَات من "السِّندباد" وحتى "ليلى والذئب".

ومن الدُّرُوس المُستفادة أنْ لا نرْكَن للمُستحيل، ونتراجع أمامَ الصِّعاب؛ حيثُ إنَّه لا مُستحيل في الحياة، وعليْنَا أنْ نشطبَ تلك المُفْرَدَة من واقعنا، وأنْ نحلُم كثيرًا، ونعملَ على تحويلِ تلك الأحلامِ إلى واقع.

أثمرَ الحُلم عن حدائق يانعة من كُتبِ العلم، وأسْفَار المعْرِفة؛ لتأتي انطلاقةُ المشرُوع من عبري بمحافظة الظاهرة، تلك الولاية الواعدة التي استقبلتْ المكتبة بحفاوَةٍ مُنقطعة النَّظير، واحتضنتها في احتفائيَّة مُعبِّرة تنمُّ عن صِدْقِ الحفاوة، والكرم، والمحبَّة، وهي مُفردات لمَسْنَاها تشعُّ من نفوسِ ووُجُوهِ الأهالي وأولياء الأمُور.

... عِشْنَا في رِحَاب عبري يومًا استثنائيًّا بجميع المقاييس؛ نزرعُ الابتسامة في وُجوه الأطفال المُتعطِّشة لمُعانقةِ كلِّ جديدٍ، ونسعى لغرسِ شغفِ الاطِّلاع في نفوس ناشئة اليوم، شبابِ الغدِ بُناة المُستقبل.

لم يأتِ اختيارُ عبري الواعِدَة لتكونَ المحطة الأولى والرئيسيَّة لانطلاقة رِحْلَةِ المَكْتبة المُتنقلة، من قبيل المُصادَفَة، بل لقناعتنا بأنَّ تلك الوُلاية نموذجٌ لولايات السلطنة الواعدة بالكثير من المَوَاهب التي لو تعهَّدناها بالرعاية والاهتمام؛ لساهمتْ في إثراء التجربة العُمانيَّة في مُختلف المجالات، وهي جديرةٌ بذلك.

وعَلى مَدَى الأيَّام الثلاثة الماضية، تنقلتْ المكتبة في مَحَطَّات عبري، ومنها إلى وُلاية ينقُل؛ حيث كان الأطفال أسعدَ الجميع بمشرُوْعِهِم التنويري، وأياديهم تتسابقُ لقطفِ ثمرات المعرفة من بُستان مكتبة السِّندباد المُحمَّل بأنواع الكُتب في شتى المجالات، وأطفالُنا يستحقُّون ذلكَ وأكثر، وقناعتُنَا بأنَّ أولياءَ الأمورِ لو خَصَّصُوا وقتاً لقراءة كتاب واحد لأطفالهم كلَّ أسبوع، لانعكسَ ذلكَ على المُستوى التحصِيْلي لفلذاتِ الأكباد، وتوسيعِ مدارِكَهُم، وتعزيزِ مهاراتِ القراءةِ والكتابةِ لديهم؛ ممَّا يجعلُهم أكثرَ استعدادًا للنَّهلِ من المعارف؛ وبالتالي إيجاد جيلٍ نوعيٍّ مُسلحٍ بالمعرفة، وقادرٍ على بناء مُستقبل وطنه بالعلم.

... إنَّ مشاريعَ مثل "مكتبة السِّندباد المُتنقلة"، والتي نتطلعُ لنجاحِهَا وتوسيعِ مَسَاراتها، يُمكن أنْ تُساهم بقدرٍ كبيرٍ في دَعْمِ مَهارات القراءة لدى أطفالنا، وتقوية القراءة لدى من يُعانون ضعفَ مهاراتها؛ من خلال ورش القراءة المُصاحِبَة لأنشطة المكتبة المُتنقلة.

إنَّ مشروع "مكتبة السِّندباد" دلالةُ على أنَّ مفهوم المسؤوليَّة الاجتماعيَّة ينبغي أنْ يتوسَّع ويتماهى مع احتياجات المُجتمع، ويُساير مُتطلَّبات التنمية؛ حيثُ لم يعُد مُجديًا -بشكلٍ كافٍ- حصرُ دور المسؤوليَّة الاجتماعيَّة للقطاع الخاص في النَّمط التقليدي، المُتمثل في التبرع المادي، محدودَ التأثير، خاصَّة عندما يُستنفدُ في الحاجات الاستهلاكيَّة الوقتيَّة، بينما يكونُ العمل المُؤسسي المدْرُوس أعظم نتاجًا، وأعمق تأثيرًا، وأجْدَى لمُواكبة قضايا المُجتمع، واحتياجاته، ويتوافق مع أهدافِ التنمية.. وهل هُناك أسمى وأنبل من أن يكونَ هدفُ التنمية خلقَ جيلٍ واعٍ مُستنير؟!

ولأنَّ طابعًا مثل هذه المُبادرات -كالمكتبة المُتنقلة- هو الاستمراريَّة والديْمُومَة والشموليَّة، فمع ارتفاع سقفِ توقعات المُجتمع منها، تتعاظم مسؤوليَّاتها؛ لدرجة أنَّه يصعُبُ على جهةٍ واحدةٍ -مهما عَظُمَ شأنُها، أو تزايدتْ إمكانيَّاتها- أنْ تنهضَ بهذا الواجب مُنفردة؛ مما يُؤكِّد الحاجة لتضافر الجُهود لإنجاحها، ولتحقق الأهداف المرسُوْمَة لها.

فالتعاونُ مع مُبادرة "المكتبة المُتنقلة" يبدأ من أولياء الأمُور، وتفاعلهم الإيجابي مع رسالة المكتبة، وتوعية صِغَارِهم بأهدافها ومَرَامِيْها، كما أنَّ لفرقِ العمل التطوُّعِي في الولايات دورًا مُهمًّا وحيويًّا في التَّعريفِ بالمُبادرة، والمُشاركة في ورش القراءة التي تقيْمها، بل وحتَّى دَعْمها بالكتب المُناسبة.. وهذا ما لمسناهُ خلال الأيام الأولى مِنَ انطلاقةِ المشروع؛ حيثُ ساهمَ الكثيْرُون في تحقيق هذا النجاح.

... وهُنا لابد مِنَ الإشارة إلى أهميَّة رَفْدِ المُجتمع المدني، بالمزيدِ من الدَّعم، وتقويته، وإنضاجِهِ؛ ليقومَ بدَوْرِه الأساسي، وينهضَ بمثلِ هذه الاستحقاقات بكفاءة، وباعتبار أنَّ ذلك هو السِّمَة المُميِّزة لدولة المُؤسَّسات؛ حيثُ إنَّه لا يُمكن أنْ تقومَ الحُكُومة بكلِّ شيء؛ لذلك لابد مِنْ تفعيلِ مفاهيم الشَّراكة في المُجتمع؛ بمُستوياتها: الأفقيَّة، والعموديَّة؛ لأنَّ الشَّراكة أحد المفاتيح المُهمَّة في المرحلةِ المُقبلة، ولابد للمُواطن أنْ يتحمَّل مسؤوليَّته كاملة ضمن مفاهيم التَّنمية الشَّاملة.

ونتطلعُ -خلال المرحلة المُقبلة- أنْ نتجاوزَ الكثيرَ من التَّحديات التي تُواجه طُمُوحنا لبلوغ الهدف المنشُوْد؛ وهو: أنْ يكونَ لـ"مكتبة السِّندباد" حافلة في كلِّ مُحافظة.. وكتابٌ في يَدِ كلِّ طفل!

تعليق عبر الفيس بوك