تحتكم ثقافة الادخار لدينا، إلى طرفي نقيض، يعبر عنهما المثلان الدارجان "القرش الأبيض لليوم الأسود" ونقيضه القائل "اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب"..
والكثرة الغالبة من المجتمع العماني من مناصري مبدأ صرف ما في الجيب انتظارًا لما يأتي به الغيب، بينما نجد قلة تؤمن بادّخار القرش الأبيض.
وهذا التناقض سببه غياب الثقافة المنهجية للادخار باعتباره مسلكًا اجتماعيًا واقتصاديًا، يرتكز على توفير جزء من الدخل والمحافظة عليه لوقت الحاجة بهدف تحقيق أهداف منشودة وتجنب العواقب غير المرغوبة.. ومن هنا يتّضح أنّ للادخار غايات عديدة منها تنمية الوعي لدى الإنسان بتنظيم أوجه إنفاقه، وتعظيم القدرة على التخطيط المستقبلي لحياته؛ مما يجعله أكثر قدرة على مواجهة الأزمات والظروف الطارئة.. كما يسهم الادخار في صُنع معنى لحياة الإنسان عبر العيش من أجل تحقيق الأهداف التي يحلم بها، فهو بذلك بمثابة حصن أمان مادي للإنسان يقيه من الوقوع في براثن الاقتراض والديون.
والتعود على ثقافة الادّخار يكون بتطبيق قاعدة:" لا تدّخر ما يتبقى بعد الصرف، بل اصرف ما يتبقى بعد الادخار" .. فإذا تعاملنا مع قسط الادّخار باعتباره فاتورة واجبة السداد أسوة بفواتير الكهرباء والمياه والهاتف وغيرها من الفواتير التي يعج بها واقعنا الحياتي.. سنجد أنفسنا وقد تعودنا على الادخار، وعلى ضبط سقف مصروفنا اليومي والشهري وفقًا لمقتضيات الفاتورة الادخارية.. وتزداد أهمية الحديث عن الادخار مع بدء تطبيق الجدول الجديد للدرجات والرواتب للعاملين بالقطاع المدني، والذي جاء ليحقق الكثير للمواطن العماني لجهة الارتقاء بمستواه المعيشي وتحقيق العدالة بين مختلف القطاعات من وزارات وهيئات، وهو أمر كان دائمًا في طليعة اهتمامات جلالة السلطان قائد المسيرة العمانية، وحادي ركب إنجازاتها الحضارية، والذي يحرص دائما على رفاهية المواطن وتحقيق تطلعاته في العيش الكريم.
ووفقًا للتقديرات الرسمية، فإنّ الزيادة الناجمة عن هذا التعديل تقارب المليار ريال، وإذا ما أضفنا إليها زيادات رواتب العمانيين في القطاع الخاص والتي تقدر بـ 300 مليون ريال، يصبح الإجمالي 1.3 مليار ريال، وهو مبلغ ليس بالقليل، ويمكن الاستفادة منه بصورة مثلى فيما لو كانت ثقافة الادّخار حاضرة في واقعنا الإنفاقي، ولكن وللأسف نجد أن سلوك الادخار في بلادنا ضعيف مقارنة بطغيان ثقافة الاستهلاك بين المواطنين بشكل كبير..
ومن هنا تنبع المخاوف من أن تتسرب جل هذه المبالغ عبر الإنفاق الاستهلاكي، وزيادة الطلب على الكماليات من السيارات والهواتف النقالة وغيرها من مظاهر تعكس الاعتناء بالفخامة والمظهر على حساب الجوهر، وهذا يعني أنّ هذه الزيادة ستذهب إلى الخارج في شكل تحويلات للاستيراد؛ كوننا بلد مستهلك وقدراته الإنتاجية محدودة، ونستورد كل شيء تقريبًا حتى نفطنا الذي نصدره خامًا نعود لنستورده مكررًا !!
وهي جدلية محسومة في اقتصادنا ذي الطابع الريعي: حيث كلما زاد الاستهلاك، زادت التحويلات التجارية إلى الخارج مما يضعف الاقتصاد واحتياطاته من العملة الصعبة. وهنا تكمن المفارقة!
ومن هنا .. لابد من التأكيد على أهمية تعزيز ثقافة الادخار في المجتمع وبحث سبل تعزيزها والتوعية بها وتضافر الجهود نحو إيجاد وسائل جديدة لها. ليس باعتبارها مسلكًا اجتماعيًا واقتصاديًا فحسب، بل واجب ديني يحضنا الإسلام عليه من خلال الدعوة إلى التوفير والادخار وعدم الإسراف "فلا تسرفوا"....
كما يسوق القرآن الكريم العبر والدلالات عن أهمية قيمة الادخار، كما جاء في سورة يوسف عند تفسيره لرؤيا الملك، حيث قال تعالى:" قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ" . وقد كان لهذه السياسة الاقتصادية الحكيمة، دور مهم في حفظ المجتمع المصري آنذاك، ووقايته من شرور المجاعات..
إذن.. سياسة التوفير والادخار تعود على المدى البعيد بالنفع العام على الفرد والمجتمع بأسره.
فالادخار سلوك عقلاني وحضاري يحضنا ديننا الحنيف عليه، وثقافتنا الشعبية بها الكثير من الحكم والأمثال التي تدعم الادخار وتحث عليه مثل"قرشك الأبيض لليوم الأسود" و"اذخر دك ولا لك"، ومن هنا لابد من تعزيز ثقافة الادخار في حياتنا اليومية كأسلوب حياة، والبعد عن مظاهر البذخ والإسراف التي نشهدها حاليًا في مجتمعنا العماني.
وهنا تتوجب الإشارة إلى أنّ الادخار لا يقتصر على مسلكنا كأفراد، بل يتجاوز ذلك إلى الدولة، بحيث تضع في سلم أولوياتها الادخار للأجيال اللاحقة، سواء في شكل صناديق للأجيال، أو على مستوى عدم الإسراف في استهلاك الموارد الطبيعية القابلة للاستنفاد ..
ولاشك أن تعزيز ثقافة الادخار يتطلب تفعيل الخطاب الإعلامي بمختلف مستوياته لتشجيع هذا المسلك وتنمية الثقافة الادخارية، من خلال تحديد الأولويات المالية بشكل عقلاني ومنهجي يعبر عن الكياسة المالية، من منطلق أن الادخار أمان اقتصادي لقادم الأيام التي لا يعرف المرء ماذا تخبئ له من ظروف واحتياجات. ولو تأملنا مصروفاتنا الشهرية لوجدنا أنّ هناك ما يمكن الاستغناء عنه، ووضع نسبته في خانة التوفير.
وينبغي أن تلعب البنوك دورًا محوريًا في تعزيز ثقافة الادخار في المجتمع، وتقع عليها مسؤولية وطنية لغرس هذه الثقافة في المجتمع عبر اشتقاق برامج ادّخارية، تتجاوب معها الأسر ومن ذلك مثلا اقتطاع مبلغ خمسين ريالاً لكل طفل من أطفال العائلة منذ يوم مولده تخصص مستقبلا لتعليمه الجامعي أو لمشروعه الاستثماري من أجل تأمين مستقبله.
وما تقدمه البنوك اليوم من برامج تعتمد على الجوائز واليانصيب، لا تدعم ثقافة الادخار في شيء، بل تعد مغريات وقتية لجذب المدخرات والعمل على الاستفادة منها بلا هدف تنموي محدد.
ويمكن - كذلك - للهيئة العامة لسوق المال أن تقدم برامج لصغار المستثمرين لجذبهم إلى الاستثمار في الأوراق المالية والهدف منها تعزيز ثقافة التوفير والادخار، وليس عيبًا أن نبدأ بمائة سهم كل شهر لتتراكم وتتجمع لتصبح بعد أعوام محفظة مالية يعتد بها كأمان اقتصادي للمستقبل.
كما إنّه في مقدور العديد من الشباب المبتدئين في مجال ريادة الأعمال أن يحولوا الإيجار الذي يدفعونه شهرياً إلى قسط من قرض بنكي ليشتروا العقار الذي يستأجرونه، وبهذا وبعد سنوات يصبح العقار ملكاً لهم.
ويمكن، أيضًا في هذا الصدد تخصيص شقق لذوي الدخل المحدود من الشباب، بحيث يتم شراؤها لهم عبر الإيجار الشهري بعد تحويله إلى قسط من ثمن الشقة، وبهكذا أفكار يمكننا أن نخلق ممارسات جديدة تحول ثقافة الاستهلاك إلى ادخار.
ومن الأساليب المفيدة في تكريس مفهوم الادخار في نفوس الناشئة، وضع حصالة كبيرة في كل بيت لتجميع القطع المعدنية، وقد شاهدت في العديد من البيوت الأمريكية حصالات يجمع فيها الأمريكيون PENNY وهي قطعة معدنية تساوي بيسة واحدة وعندما تمتلئ يتم إيداعها في البنك لتحويلها إلى عشرات الدولارات بشكل دوري.. وغير ذلك من أفكار بناءة تعزز ثقافة الادخار في المجتمع.
ولنا في الثقافة الآسيوية الكثير من الدروس العظيمة فيما يخص الادخار وعلاقته بالاستثمار. وهناك علاقة طردية بين زيادة ثقافة الادخار في المجتمع، ونمو استثماراته وعظم اقتصاده . ويتبدى ذلك جليًا في المجتمعين الهندي والماليزي وغيرهما من مجتمعات آسيوية ينعكس وعيها العالي بالادخار إيجاباً على التنمية.
فالعائلة الهندية - على سبيل المثال - توفر الكثير من أجل تعليم أبنائها في جامعات خاصة، ويعمل الماليزيون والتايوانيون والكوريون على تحقيق أحلام أبنائهم بالدخول إلى الجامعات الأمريكية بحصاد سنوات من التوفير، لينالوا قسطًا من التعليم النوعي الذي يؤهلهم لبناء مستقبل مشرق لهم.
إنّ التوازن بين الاستهلاك والادخار، أمر حيوي، ويعد من أهم عوامل التنمية، وأيّ خلل في منظومتهما يؤثر سلباً على الاقتصاد.
ولأننا نعاني من طغيان ثقافة الاستهلاك، خاصة في أوساط الشباب الذي يلجأون عادة إلى القروض المصرفية لإنفاقها في وجوه البذخ المتعددة وبالذات في الأمور الكمالية، علينا أن نعيد التوازن بتدعيم ثقافة الادخار، والحد من الإسراف خاصة لدى هذه الشريحة.
نحن مطالبون بابتداع أفكار تكفل تحويل الاستهلاك إلى ادخار عبر ممارسات وبرامج ووسائل مبتكرة نابعة من المجتمع وتراعي خصوصيته، وتستند على بديهية المثل الدارج :"القرش الأبيض لليوم الأسود ".