‏جدل البربرية بين سعيد الدارودي وعزيز أجهبلي!

 

 

 

حسين الراوي

 

لم يكن مقال «أبجدية التيفيناغ.. ما حقيقتها؟» الذي وقّعه الباحث العُماني سعيد بن عبد الله الدارودي مجرّد مساهمة لغوية عابرة، بل فجّر نقاشًا واسعًا في الأوساط الثقافية المغربية، وفتح ملفًا شائكًا يتجاوز حدود الأبجدية واللسان ليطال أسئلة الهوية، والتاريخ، والسياسة الثقافية، ودور المؤسسات الرسمية في صناعة الوعي اللغوي.

وقد نُشر هذا المقال أول مرة بتاريخ 23 أكتوبر 2008م في الملحق الثقافي لصحيفة «العلم» المغربية.

وقد تجسّد الجدل الذي أثاره المقال بوضوح في حوار صحفي لاحق جمع الدارودي بالصحفي الأمازيغي عزيز أجهبلي، نُشر بتاريخ 19 ديسمبر 2008م في صحيفة «العلم» المغربية ضمن ملحقها الأمازيغي؛ حيث اصطدمت رؤيتان مختلفتان جذريًا: رؤية بحثية تاريخية حذرة، وأخرى هوياتية مؤسساتية تؤمن بإمكانية صناعة اللغة بالإرادة السياسية والثقافية.

ينطلق الدارودي من مسلّمة يعتبرها جوهرية، مفادها أن الأمازيغية، في وضعها الراهن، ليست لغة موحدة، بل مجموعة لهجات متباينة، وأن الحديث عن لغة معيارية موحدة لا يزال- في نظره- حلمًا مشروعًا لم يبلغ بعد مرحلة التحقق الواقعي. ومن هذا المنطلق، يرى أن القفز إلى الترسيم والمعيرة دون استكمال شروطهما العلمية يشبه وضع العربة أمام الحصان.

وفي قلب هذا الطرح، يضع الدارودي أبجدية التيفيناغ موضع تساؤل، لا من باب الرفض الإيديولوجي، بل من زاوية البحث التاريخي المقارن، مشككًا في أصالتها المغاربية الخالصة، وذاهبًا إلى أنها تتقاطع- شكلاً وبنية- مع كتابات قديمة في جنوب الجزيرة العربية، ما يفقدها- بحسب رأيه- صفة «التميّز الهوياتي» التي تُنسب إليها في الخطاب الأمازيغي المعاصر.

ويجدر التأكيد هنا أن مقاربة الدارودي قائمة على العلم والبحث والتخصص، فهو يعتمد على التحليل اللغوي والتاريخي المقارن وليس على الانطباع الشخصي أو العاطفة.

كما يثير الباحث العُماني واحدة من أكثر النقاط حساسية، حين يدافع عن استعمال مصطلح «البربر» بوصفه توصيفًا تاريخيًا غير قدحي في ذاته، معتبرًا أن النفور منه هو نتاج توظيف سياسي حديث، لا نتيجة دلالته الأصلية. ويذهب أبعد من ذلك حين يرى أن الأسماء لا ترفع الشعوب ولا تحطّ من شأنها، بل أفعالها وتاريخها، مستشهدًا بتجارب شعوب أخرى حوّلت تسميات مثقلة بالدلالات السلبية إلى رموز للفخر والاعتزاز.

في المقابل، مثّل الصحفي عزيز أجهبلي صوت التيار الأمازيغي المغربي الحديث، الذي يرى في مشروع توحيد الأمازيغية ومعيرتها مسارًا تاريخيًا طبيعيًا لا بُد منه لإنصاف لغة هُمِّشَت طويلًا. ومن هذا المنظور، تُعدّ تيفيناغ رمزًا ثقافيًا وهوياتيًا، بغض النظر عن أصولها التاريخية الدقيقة، كما أن استبدال مصطلح «بربر» بـ«أمازيغ» يُعدّ- في نظر هذا التيار- تصحيحًا لمسار لغوي وثقافي تراكمي ارتبط بالاستعمار والتنميط.

ويُلاحظ أن موقف أجهبلي ينبع من حبه وحرصه وخوفه على التراث الأمازيغي، وهو يدافع عن الرموز واللغة بوصفها إرثًا ثقافيًا يجب الحفاظ عليه، وليس بالضرورة من منظور بحثي أو تحليلي.

ويمتد الخلاف ليشمل تقييم التجربة المغربية الرسمية؛ حيث يرى الدارودي أن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية انحرف عن دوره العلمي التوثيقي نحو أدوار أيديولوجية، في حين يعتبر المدافعون عن التجربة أن ما تحقق يمثل خطوة متقدمة في مسار الاعتراف بالتعدد الثقافي واللغوي داخل الدولة المغربية.

وهكذا، يتجاوز الخلاف بين الدارودي وأجهبلي مسألة أبجدية أو مصطلح، ليعكس صراعًا أعمق بين من يؤمن بأن اللغة كائن حيّ ينمو ببطء داخل المجتمع، ومن يرى أنها يمكن- بل يجب- أن تُصاغ وتُدعَم بقرار ثقافي وسياسي واعٍ.

وبين هذين التصورين، يبقى السؤال مفتوحًا: هل تُبنى اللغات من تحت، من أفواه الناس وتاريخهم اليومي، أم تُرسَّخ من فوق، عبر المؤسسات والقوانين والرموز؟

في نهاية المقال.. يبين هذا الجدل بين سعيد بن عبد الله الدارودي وعزيز أجهبلي أن مسألة أبجدية التيفيناغ لا تقتصر على مسألة لغوية بحتة، بل تقع في قلب صراع معرفي وهوياتي بين مقاربتين متكاملتين ومتباينتين في الوقت نفسه. فبينما ينطلق الدارودي من منهجية بحثية قائمة على التحليل اللغوي والتاريخي المقارن، والالتزام بالواقع اللهجي الفعلي للأمازيغية، يؤكد أجهبلي على الجانب العاطفي والثقافي والهوياتي، وضرورة حماية التراث الأمازيغي ودعم الرموز اللغوية من خلال القرارات والمؤسسات الرسمية.

ويشير هذا التباين إلى أن اللغة ليست مجرد نظام صوتي أو كتابي، بل كائن حي مرتبط بالهوية والمجتمع والتاريخ، وأن أي محاولة لفهمها أو ترسيمها يجب أن تراعي التوازن بين البحث العلمي الموضوعي وحماية التراث الثقافي.

وهكذا، يبرز هذا الحوار كنموذج لمواجهة التحديات التي تواجه اللغات والثقافات المهددة؛ حيث يلتقي الوعي العلمي بالمسؤولية الثقافية، والتخصص البحثي بالحرص العاطفي على الهوية، مما يجعل النقاش حول الأمازيغية وأبجدية التيفيناغ غنيًا ومتعدد الأبعاد، ويستمر في إثارة الأسئلة المفتوحة حول مصادر بناء اللغة بين المجتمع والمؤسسات.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z