«الجنوب العربي».. بين الغياب التاريخي والوهم السياسي

 

 

 

خالد بن أحمد العامري

bnmuqbil@yahoo.com

 

في مشهد من الجدل المتصاعد حول مصطلح «الجنوب العربي»، وما يرافقه من صراع محتدم على الساحة اليمنية، ومحاولات لإعادة إنتاجه بوصفه هوية سياسية أو حقيقة تاريخية، تبرز الحاجة إلى موقف عقلاني يستند إلى الوقائع الموثقة لا إلى العواطف المُسيَّسة؛ فالتاريخ ليس مادة قابلة لإعادة التشكيل وفق رغبات البعض، بل مرآة تكشف زيف الادعاءات مهما طال أمد تكرارها.

المُطَّلع على المصادر التاريخية والجغرافية العربية والإسلامية لا يجد مصطلح «الجنوب العربي» مدونًا في كتبهم، ولا في خرائط المُستشرقين، ولا في السجلات السياسية للمنطقة؛ بل إن المصطلح المتداول تاريخيًا وجغرافيًا هو «جنوب الجزيرة العربية» أو «العربية الجنوبية»، وهو توصيف يشير إلى أقصى جنوب شبه الجزيرة العربية، ويشمل اليوم بشكل أساسي أراضي اليمن شمالًا وجنوبًا وجنوب عُمان، وأجزاء من جنوب غرب المملكة العربية السعودية. وقد عُرفت هذه الرقعة الجغرافية قديمًا بمسميات مثل «العربية السعيدة».

ولا يَرِد مصطلح «الجنوب العربي» في سجلات المخلاف اليمنية، ولا في مراسلات سلاطين حضرموت أو المهرة أو غيرهم من حكام تلك الرقعة الجغرافية، وهو ما يشكل دليلًا واضحًا على أن المصطلح لم يكن جزءًا من التاريخ السياسي لليمن. ويختلف عن التسمية السياسية الحديثة «الجنوب العربي» التي ابتكرتها بريطانيا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، متزامنة مع إنشاء «اتحاد الجنوب العربي» عام 1962. وكان الهدف من هذه التسمية واضحًا، وهو إيجاد كيان سياسي يفصل محميات عدن عن مُحيطها اليمني الطبيعي، لم تكن التسمية توصيفًا تاريخيًا بقدر ما كانت أداة سياسية استعمارية. أما التسميات السائدة آنذاك، مثل «محميات عدن الشرقية» و«محميات عدن الغربية» و«ولاية عدن»؛ فهي تسميات إدارية لم تُعبِّر عن هُوِيَّة قومية أو وطنية مُستقلة.

وتؤكد الوثائق البريطانية أن الهدف الحقيقي من مسمي "اتحاد الجنوب العربي"، لم يكن بناء دولة ذات سيادة؛ بل تأمين المصالح البريطانية في عدن وباب المندب والقواعد العسكرية، وحماية طرق الملاحة، ومنع قيام دولة يمنية مُوحَّدة. ومن هنا، فإنَّ الإقرار بوجود مظالم أو مطالب سياسية معاصرة أمر مشروع، لكنه لا يُبرر إسقاطها على مصطلح أُريد له أن يبدو حقيقة راسخة، بينما هو في جوهره نتاج ظرف استعماري لا جذور له في الذاكرة التاريخية للمنطقة.

وفي سياق معاصر لا ينفصل عن هذا الجدل التاريخي، دخل التحالف العربي إلى اليمن تحت شعار إعادة الشرعية ومواجهة جماعة أنصار الله (الحوثيين) في شمال البلاد، بوصفهم قوة انقلابية خرجت على الدولة ومؤسساتها الدستورية، وسيطرت على العاصمة صنعاء. وعلى هذا الأساس، اتخذت الحكومة الشرعية من مدينة عدن، في جنوب اليمن، عاصمة مؤقتة لإدارة شؤون الدولة في ظل الحرب. غير أن المفارقة اللافتة تكمُن في أن القوى التي ترفع راية دعم الشرعية هي ذاتها التي تحاول إزاحة الشرعية عن المشهد السياسي في الجنوب، عبر تمكين المجلس الانتقالي الجنوبي من السيطرة على المحافظات الشرقية (حضرموت والمهرة وشبوة وسقطرى)، وهو مجلس يتبنى مشروعًا انفصاليًا يسعى إلى إقامة دولة باسم «الجنوب العربي» من خلال فصل جنوب اليمن عن شماله، بدعم إقليمي واضح.

هكذا تحولت عدن، التي أُعلنت عاصمة مؤقتة لـ"الشرعية"، إلى ساحة نفوذ لقوى تناقض جوهر المشروع الذي قيل إن التحالف جاء من أجله. وهذا التناقض الصارخ بين الخطاب والممارسة لا يعيد إنتاج الأزمة فحسب؛ بل يُفرغ مفهوم الشرعية من مضمونه، ويقوض وجودها على الأرض عبر دعم مشاريع موازية تُمزِّق الدولة وتُكرِّس الانقسام، في مشهد يعكس امتداد المنطق الاستعماري القديم بأدوات جديدة.

إنَّ إعادة إحياء مسمى «الجنوب العربي» تزامنًا مع صعود قوى مُسلَّحة موازية للشرعية، في ظل الحرب التي تخاض في اليمن، وتحت مظلة التحالف العربي، لا يمكن فصلها عن واقع التفكيك السياسي والعسكري الذي تعيشه اليمن، الحفاظ على وحدة اليمن فيه مصلحة لدول الجوار. 

وهنا، لا يعود السؤال عن مشروعية الاسم بقدر ما يصبح السؤال عن الدور الذي يؤديه: هل هو توصيف بريء، أم أداة لإضفاء غطاء سياسي على واقع عسكري جديد يفرض بالقوة على الأرض؟

ولفهم هذا التناقض في سياقه الأعمق، لا بد من العودة إلى الجذور التاريخية لتشكل الكيانات في جنوب الجزيرة العربية. فقبل قيام اتحاد الجنوب العربي، كانت السلطنات والمشيخات كيانات مستقلة، لكل منها نظامها وعلاقاتها وتحالفاتها، ولم تكن هناك دولة واحدة أو اسم جامع أو هوية سياسية مشتركة. وكان الرابط الوحيد الذي جمعها هو الحماية البريطانية، وهو رابط إداري لا يصنع هوية وطنية.

وقد واجه اتحاد الجنوب العربي رفضًا من كيانات رئيسية ذات ثقل جغرافي وتاريخي، وفي مقدمتها سلطنات حضرموت (القعيطية والكثيرية)، وسلطنة المهرة، وسلطنة يافع العليا، ومشيخة العمودي، التي امتنعت عن الانضمام إليه واعتبرته كيانًا إداريًا مفروضًا من السلطة الاستعمارية. وأسهم هذا الرفض الواسع في تقويض شرعية الاتحاد، بالتزامن مع تصاعد الكفاح الوطني، ما أدى إلى انهياره عام 1967م وإعلان قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، التي حملت اسم «اليمن» في تسميتها الرسمية دون اعتراض شعبي يذكر، وهو ما يعكس وعيًا جمعي بانتماء الأرض والإنسان إلى السياق اليمني الأوسع.

إنَّ إعادة إحياء مصطلح «الجنوب العربي» في الزمن الراهن تحدث خارج سياقه التاريخي، وتُستخدم لأغراض سياسية لا بوصفه حقيقة موثقة. وتكمُن خطورة هذا الإحياء لا في خطأه التاريخي فحسب؛ بل في كونه يُعيد تدوير منطق التقسيم الذي فشل بالأمس، ليُقدَّم اليوم كحلٍ سياسيٍ؛ فالأسماء ليست بريئة، والمصطلحات ليست محايدة، وحين تفرض خارج سياقها تتحول إلى أدوات تفكيك لا عناوين هوية.

لقد أثبت التاريخ أن هذا المصطلح لم يُنتج دولة مستقرة أو مشروعًا وطنيًا قابلًا للحياة. وما سقط تحت ضغط الكفاح الوطني لا يمكن إحياؤه بخطاب انتقائي أو حنين سياسي مُصطنع. ونقد المصطلح لا يعني إنكار التنوُّع الثقافي أو الخصوصيات المحلية، لكنه تأكيد على أن أي مشروع سياسي لا ينطلق من قراءة أمينة للتاريخ، محكوم عليه بإعادة إنتاج الفشل؛ إذ إنَّ الأرض والإنسان في هذه الرقعة الجغرافية كانا، وسيظلان، جزءًا من سياق يمني أوسع، مهما تعددت الكيانات وتغيَّرت الصِيَغ السياسية.

الأكثر قراءة

z