اللوجستيات.. من الرؤية الوطنية إلى ريادة التحول الاقتصادي

 

 

 

براءة بنت يعقوب بن راشد السعدية

 

لم تكن اللوجستيات في سلطنة عُمان خيارًا طارئًا، ولا مسارًا فرضته التحولات العالمية فحسب؛ بل جاءت ثمرة رؤية وطنية واعية قرأت الجغرافيا قبل الاقتصاد، واستثمرت في الموقع قبل المنافسة، وجعلت من عُمان محورًا استراتيجيًا في حركة التجارة الإقليمية والدولية.

لقد أدركت الجهات الحكومية، في وقت مُبكِّرٍ، أن اللوجستيات ليست مجرد نقل وبضائع وموانئ؛ بل منظومة متكاملة تُسهم في تنويع مصادر الدخل، وتوليد فرص العمل، وتعزيز مكانة السلطنة في سلاسل الإمداد العالمية، ومن هنا، جاءت الخطط الوطنية متدرجة، ومدروسة، ومبنية على شراكات ذكية بين القطاعين العام والخاص.

اليوم، ونحن ننظر إلى ما تحقق على الأرض، لا يمكن إلا أن نثمن الجهد المؤسسي الكبير الذي بُذل في تطوير البنية الأساسية، من موانئ عالمية المواصفات، إلى مناطق اقتصادية متخصصة، إلى شبكة طرق حديثة، وإجراءات جمركية متطورة، ومنظومات رقمية اختصرت الزمن ورفعت الكفاءة.

لقد انتقلت اللوجستيات العُمانية من مرحلة التأسيس إلى مرحلة التمكين، ومن التخطيط إلى التنفيذ، ومن الرؤية إلى الأثر الملموس، وهو ما جعل السلطنة تحجز لنفسها موقعًا تنافسيًا حقيقيًا في هذا القطاع الحيوي.

وفي قلب هذا التحول، يبرُز الدور المحوري للأكاديمية العُمانية اللوجستية بوصفها مؤسسة تعليمية مهنية وطنيًا لصناعة الكفاءات، لا مجرد مؤسسة تعليمية، فقد جاءت الأكاديمية استجابة حقيقية لحاجة السوق، وسدًا للفجوة بين التعليم والتطبيق، عبر برامج متخصصة، ومناهج مرتبطة بالواقع العملي، وشراكات مع مؤسسات محلية ودولية.

لقد أسهمت الأكاديمية في تمكين الطلبة العُمانيين من أدوات المعرفة الحديثة، ومنحتهم فرصًا حقيقية للانخراط في سوق العمل بثقة واقتدار، وأسست لجيل يفهم اللوجستيات كعلم، وكاقتصاد، وكثقافة إدارة وتخطيط، لا كمهنة تقليدية محدودة الأفق.

ولا يمكن الحديث عن اللوجستيات في عُمان دون التوقف عند بيئة الاستثمار التي أصبحت أكثر نضجًا وجاذبية؛ فسلطنة عُمان تمتلك مقومات استثمارية نادرة، وموقعا جغرافيا يربط الشرق بالغرب، واستقرارا سياسيا واقتصاديا، وتشريعات مرنة ومحفزة، ومناطق حرة واقتصادية واعدة، وبنية أساسية صُمِّمت بعقلية المستقبل.

والاستثمار في القطاع اللوجستي في سلطنة عُمان لم يعد مغامرة؛ بل فرصة حقيقية مدروسة، ذات عوائد مجزية، ومخاطر محسوبة، خاصة في ظل الطلب المتنامي على حلول النقل والتخزين والخدمات اللوجستية المتكاملة في المنطقة.

وقد أثبتت التجربة أن السلطنة لا تطرح نفسها كممر عبور فقط؛ بل كمركز قيمة مضافة، قادر على استقطاب الصناعات المرتبطة باللوجستيات، من إعادة التصدير، إلى التصنيع الخفيف، إلى الخدمات الذكية، وهو ما يفتح آفاقًا واسعة أمام المستثمرين المحليين والدوليين.

إنَّ ما تحقق في قطاع اللوجستيات، نموذجٌ يُحتذى به في التخطيط طويل المدى، والتكامل المؤسسي، والاستثمار في الإنسان قبل الحجر. وهو دليل واضح على أن الرؤية حين تُدار بعقل الدولة، تتحول إلى إنجازات تتجاوز اللحظة وتؤسس للمستقبل.

اللوجستيات في عُمان ليست قطاعًا اقتصاديًا فحسب؛ بل قصة نجاح وطنية تتشكل بهدوء، وتكبر بثبات، وتستحق أن تُروى، وأن يُبنى عليها، وأن يُستثمر فيها بثقة.

وحين نؤمن بأنَّ الجغرافيا حين تُدار بوعي، تتحول إلى ثروة، ندرك أن ما أنجزته سلطنة عُمان في هذا القطاع ليس نهاية الطريق؛ بل بداية مرحلة أكثر نضجًا، وأكثر تأثيرًا، وأكثر حضورًا على خريطة الاقتصاد العالمي.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z