خالد بن سالم الغساني
تشكل الجمهورية اليمنية امتدادًا طبيعيًا لسلطنة عُمان، ليس فقط على المستوى الجغرافي؛ بل على المستويات الأُسرية والتاريخية والاجتماعية والثقافية العميقة؛ حيث تربط الشعبين وشائج متجذّرة من الأرض والنسب والتاريخ المشترك. هذه العلاقة الفريدة تجعل من اليمن ليس فقط دولة شقيقة مُجاورة لعُمان؛ بل إنها تتعدى ذلك بكثير لتُشكِّل جزءًا أصيلًا من النسيج الاجتماعي والثقافي العُماني، وعمقًا إنسانيًا واستراتيجيًا لا يُمكن فصله عن رؤية السلطنة لمُحيطها الإقليمي.
ومن هذا المنطلق، فإنَّ ما يهم عُمان في اليمن لا يقتصر على الشأن السياسي وحده؛ بل يمتد ليشمل الإنسان اليمني وأمن واستقرار المجتمع، وصون المصالح المشتركة التي تشكل أساس العلاقة بين البلدين. وانطلاقًا من هذه الرؤية، أصبحت الجهود العُمانية الداعمة لليمن نهجًا ثابتًا وجزءًا من استراتيجية طويلة الأمد، تقوم على حماية السلام والاستقرار، وتعزيز الروابط التاريخية والاجتماعية التي تجمع الشعبين، بعيدًا عن منطق الصراعات أو الحسابات الضيقة.
لقد أدركت وآمنت سلطنة عُمان- ومنذ وقت مبكر- أن استقرار اليمن يمثل عنصرًا أساسيًا في استقرارها الوطني وفي أمن المنطقة بأسرها، وهو ما جعلها تتبنى نهجًا ثابتًا قائمًا على الحكمة، والاعتدال، والحوار البنّاء.
وعلى مدى العقود الماضية، مارست سلطنة عُمان- ولا تزال- أدوارًا رائدة ومحورية في دعم السلام اليمني، مُستندةً إلى نهج دبلوماسي متوازن يقوم على التقريب بين وجهات النَّظر، وفتح قنوات الحوار بين مختلف الأطراف. ولم تكن السلطنة يومًا وسيطاً سياسياً تقليدياً؛ بل ارتقت بدورها إلى مكانة أسمى وأعمق، انطلاقًا من تلك الوشائج الجغرافية والتاريخية والإنسانية المتينة التي تربط الإنسان اليمني بأخيه العُماني. وقد مكّنها هذا الفهم العميق من أن تكون منصة موثوقة ومقبولة لدى جميع الأطراف اليمنية، بفضل مكانتها السياسية الراسخة وشبكة علاقاتها الإقليمية والدولية المُتوازنة.
وقد استضافت سلطنة عُمان على مرّ السنوات مبادرات تفاوضية مُتعددة، أسهمت في تهدئة التوترات وفتح مسارات للحوار بعيدًا عن لغة السلاح والصراع، مع الحفاظ على حيادها الإيجابي الذي شكّل أساس الثقة بينها وبين مختلف الأطراف. هذا الحياد الذي لم يكن موقفًا سلبيًا؛ بل خيارًا استراتيجيًا واعيًا مكّن السلطنة من القيام بدور فاعل ومؤثر في تقريب المسافات، وتهيئة بيئة آمنة للحوار.
ويتحدث التاريخ بوضوح عن هذا الدور العُماني ويحفظه جيدًا؛ حيث قامت سلطنة عُمان في العديد من المحطات المفصلية بدور الوسيط الناجح في الأزمات اليمنية الداخلية؛ سواءً عبر مبادرات المصالحة بين القوى السياسية المختلفة، أو من خلال دعم الحوار بين المكونات الاجتماعية المتنوعة. وقد تميزت هذه الجهود بالسرية والحذر والدقة، ما أكسب سلطنة عُمان احترام جميع الأطراف، ورسّخ مكانتها كخيار أمثل لاستضافة المفاوضات التي تتطلب أجواء مستقرة وآمنة، بعيدة عن الضغوط والتجاذبات.
وعلى الصعيد الإنساني، برزت سلطنة عُمان كإحدى الدول الرائدة في تقديم الدعم لليمنيين، حيث لم تقتصر مبادراتها على الجانب السياسي؛ بل شملت المساعدات الغذائية والطبية، وتسهيل الممرات الآمنة للمدنيين المتضررين من النزاع، إضافة إلى دعم المصالحات المحلية التي تعزز الثقة وتخفف من حدة الانقسام. ولم تكن هذه المبادرات الإنسانية منفصلة عن السياسة الدبلوماسية العُمانية؛ بل جاءت كجزء متكامل من رؤية شاملة تقوم على حماية المدنيين، وتخفيف معاناتهم، وتعزيز الاستقرار المجتمعي في اليمن.
وفي إطار جهودها المستمرة لدعم السلام والحوار، استضافت سلطنة عُمان مؤخرًا في مسقط مفاوضات يمنية- يمنية تاريخية أسفرت عن نجاح كبير في إطلاق سراح المعتقلين والأسرى من جميع الأطراف، إذ تمَّ الاتفاق على إطلاق سراح نحو 2900 مُحتجز من الجانبين، بما في ذلك مواطنون من جنسيات مختلفة، في صفقة تبادل إنسانية مهمة. وتُعد هذه الخطوة تجسيدًا للرؤية العُمانية القائمة على أن السلام الحقيقي لا يتحقق إلّا على أساس العدل والمساواة، وأن معالجة ملف الأسرى والمعتقلين تُشكّل ركنًا أساسيًا في أي عملية سياسية جادة وناجحة. وقد انعكست نتائج هذه المفاوضات على تهدئة الأجواء وتخفيف معاناة المحتجزين وأسرهم، مما يعزز الثقة بين الفرقاء ويفتح آفاقًا جديدة نحو تسوية شاملة في اليمن.
اليمن بالنسبة لعُمان، يعني بُعدًا إنسانيًا قبل أي اعتبار آخر، ثم بُعدًا استراتيجيًا عميقًا تفرضه وشائج الجيرة والقربى؛ فاستقرار اليمن هو استقرار لعُمان وللمنطقة بأكملها، وهو ما يفسر التزام السلطنة الثابت بدعم كل ما من شأنه تعزيز الأمن والسلام والتنمية في هذا البلد الشقيق. ويعكس هذا الالتزام القيم الإنسانية التي تقوم عليها السياسات العُمانية؛ حيث تُعطى كرامة الإنسان وحمايته أولوية قصوى، بعيدًا عن أي تصعيد أو توتر سياسي.
ويبرز الدور العُماني بوضوح كجسر للتواصل بين الأطراف المختلفة، إذ استطاعت السلطنة أن تفرض حضورها بحكمة ودبلوماسية هادئة، محافظة على حيادها الذي أكسبها احترام الجميع، ممكّنة اليمنيين من الحوار والتقارب بعيدًا عن النزاعات المسلحة. ولم يقتصر هذا الدور على الوساطة السياسية فحسب؛ بل امتد ليشمل العمل الميداني المباشر، والتنسيق مع المنظمات الإنسانية، ودعم المبادرات الإقليمية والدولية الهادفة إلى تحقيق الاستقرار الشامل.
وعلاوة على ذلك، تعمل سلطنة عُمان على تعزيز الجوانب الاقتصادية والاجتماعية التي تسهم في استقرار اليمن، من خلال مشاريع تنموية ومُبادرات تعاون تهدف إلى تحسين البنية التحتية، ودعم التنمية المحلية، وتعزيز قدرة المجتمعات على التَّعافي من آثار النزاع. وتعكس هذه الجهود المُتكاملة فهم السلطنة العميق لأهمية دعم اليمن على جميع المستويات، باعتباره امتدادًا طبيعيًا لعُمان من حيث الأرض والنسب والتاريخ.
ولا تقتصر العلاقة العُمانية-اليمنية على الإطار الرسمي أو المؤسسي فقط؛ بل تمتد إلى مستوى الأُسر والمجتمع المدني؛ حيث تربط العائلات في البلدين علاقات وثيقة تسهم في تعزيز ثقافة التفاهم والتعاون المشترك. وتمنح هذه الروابط المجتمعية أي مبادرة عُمانية بعدًا إضافيًا من القبول والفاعلية لدى اليمنيين، الذين ينظرون إلى الدور العُماني باعتباره نابعًا من عمق العلاقة التاريخية والإنسانية المشتركة بين الشعبين.
ومن خلال هذه الجهود المستمرة والمتعددة الأبعاد، تؤكد سلطنة عُمان ريادتها كدولة قادرة على الجمع بين الحكمة الدبلوماسية والعمل الإنساني البنّاء، لتقدّم نموذجًا يُحتذى به في دعم السلام، وحماية كرامة الإنسان، وتحقيق التوازن الذي يشكّل حجر الأساس لمستقبل أفضل لليمن وشعبه. ومع كل خطوة من خطوات الوساطة والمبادرات الإنسانية، تثبت السلطنة للعالم أجمع أنها شريك تاريخي ملتزم بسلام اليمن وأمنه واستقراره، وركيزة أساسية في دعم التنمية والسلام في المنطقة ككل.
إنَّ ما تقوم به سلطنة عُمان تجاه اليمن لا يندرج ضمن إطار معالجة الأزمات الطارئة؛ بل يمثل رؤية استراتيجية بعيدة المدى تقوم على الثقة المتبادلة، والحوار البنّاء، ووضع الإنسان في صدارة الأولويات، بعيدًا عن أي حسابات أو تفسيرات أخرى، إنها في خدمة اليمن وشعبه، وتجسيدًا لالتزام عميق تجاه بلد شقيق يشكّل امتدادًا جغرافيًا وأُسريًا يربط بين الأجيال.
