حسين الراوي
في السنوات الأخيرة، لم يعد صعود بعض الوجوه على منصات التواصل الاجتماعي ظاهرة بريئة أو عابرة، بل تحوّل إلى مؤشر خطير على اختلال عميق في منظومة القيم والمعايير داخل المجتمع. فحين نرى شخصيات بلا رصيد فكري أو أخلاقي أو معرفي، تُقدَّم للجمهور بوصفها “مؤثّرة” أو “ملهمة” أو “صاحبة رأي”، يصبح السؤال مشروعًا: كيف وصلنا إلى هنا؟
إن المشكلة لا تكمن في حرية الظهور أو التعبير بحد ذاتها، فحرية التعبير حق إنساني أصيل، وإنما في الخلط المتعمّد بين الحرية والابتذال، وبين الحضور الإعلامي والاستحقاق الثقافي. حين تُبنى الشهرة على الاستعراض الجسدي والإثارة الرخيصة، ثم يُمنح صاحبها منبرًا إعلاميًا لتوجيه المجتمع وإعطاء النصائح، نكون أمام حالة من تضخيم اللاشيء وتحويل الفراغ إلى سلطة رمزية.
لقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي طبيعة النجومية. ففي السابق، كانت المكانة تُكتسب عبر المعرفة، الإنجاز، أو التجربة الإنسانية العميقة. أما اليوم، فقد أصبحت الشهرة سلعة تخضع لقانون السوق، حيث يُكافأ كل ما يثير الانتباه، مهما كان سطحيًا أو فارغًا. وهكذا نشأ ما يمكن تسميته بـ اقتصاد التفاهة، حيث يُقاس التأثير بعدد المشاهدات لا بعمق الفكرة، وبمستوى الإثارة لا بقيمة المحتوى.
الإعلام، الذي كان يُفترض أن يكون سلطة نقدية وأداة وعي، يتحمّل جزءًا كبيرًا من المسؤولية. فحين تستضيف البرامج والبودكاست هذه الشخصيات فقط لأنها “ترند”، فإنها تشرعن الرداءة وتمنحها غطاءً من الاحترام الزائف. وبدل أن يُساءَل الضيف عن معرفته أو مشروعه أو إسهامه الحقيقي، يُحتفى به بوصفه ظاهرة، وكأن الظهور بحد ذاته إنجاز.
الأخطر من ذلك هو الأثر التراكمي على الوعي الجمعي، خصوصًا لدى الشباب. إذ يجري تقديم نماذج مشوّهة للنجاح، توحي بأن الطريق إلى التأثير يمر عبر الجسد لا العقل، وعبر الاستعراض لا الجهد، وعبر الصدمة لا المعنى. وبهذا، يتم تهميش أصحاب الفكر الحقيقي، وإقصاء المثقفين، وتهميش القيم الإنسانية العميقة لصالح محتوى سريع الاستهلاك قصير العمر.
ولا يمكن إعفاء الجمهور من المسؤولية أيضًا؛ فالمتلقي الذي يصفّق للتفاهة، ويهمل المعرفة، ويساهم في رفع المحتوى السطحي إلى صدارة المشهد، يشارك – بوعي أو بدونه – في تكريس هذا الانحدار. فالتفاهة لا تعيش وحدها، بل تحتاج إلى جمهور يغذّيها.
إن ما نعيشه اليوم ليس أزمة أخلاق فردية، بل أزمة وعي جماعي. أزمة معايير، وأزمة معنى، وأزمة دور. والمجتمع الذي يسمح للتفاهة أن تتحوّل إلى قدوة، إنما يفرّط بمستقبله الثقافي، ويضعف مناعته الفكرية، ويترك أجياله عرضة للفراغ والتيه.
ختامًا.. إن استعادة التوازن لا تبدأ بالمنع أو القمع، بل بإعادة الاعتبار للعقل، وبناء منصات تحترم الوعي، ودعم المحتوى الجاد، ومساءلة الإعلام عن دوره الحقيقي. فالمجتمعات لا تنهض بما هو صاخب، بل بما هو عميق، ولا تُبنى بالسطح، بل بالفكرة.
