الثقافة والتفاهة

 

 

 

د. صالح بن ناصر القاسمي

 

الأمم لا تستمر، ولا تتطور، إلا بالثقافة؛ فالثقافة هي الذاكرة الحية للشعوب، وهي البوصلة التي تحدد اتجاهها في مسار الحضارة. وبطبيعة الحال، لا يمكن لثقافة حقيقية فاعلة أن تقوم دون كتابة راقية واعية، تحمل فكرًا ناضجًا، وتعبّر عن رؤية قادرة على التحليل والبناء. فالتاريخ الإنساني يخبرنا بوضوح أن كل أمة صنعت حضارة، إنما فعلت ذلك لأنها امتلكت فكرًا عرف كيف يُترجم إلى معرفة، وكيف يتحول من مجرد أفكار إلى واقعٍ ملموس.

لقد أسهمت أمتنا العربية والإسلامية إسهامًا عظيمًا في بناء الحضارة الإنسانية، وامتدت جذور عطائها في عمق التاريخ، حين أدركت المعنى الحقيقي لقوله تعالى: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾ (العلق: 1). فجاءت الآية الكريمة بصيغة الأمر، دلالة واضحة على أن القراءة والكتابة ليستا ترفًا فكريًا؛ بل مدخلًا أصيلًا للمعرفة، وطريقًا للحكمة، وأساسًا لأي نهضة حقيقية. ومن هذا الفهم وُلدت الحضارة الإسلامية، وأنجبت علماء ومفكرين في شتى المجالات، كانوا مصابيح علمٍ أضاءت دروب البشرية، حتى صار نتاجهم العلمي مرجعًا يُحتذى به شرقًا وغربًا.

ولا يحتاج القارئ إلى عناء كبير ليُدرك حجم ذلك التأثير؛ فكم يبعث في النفس سرورًا واعتزازًا أن نرى مفكرًا غربيًا يتحدث في لقاء مصور عن فضل علماء المسلمين، أمثال ابن سينا والبيروني، وعن إسهاماتهم العلمية التي شكّلت الأساس الذي بُنيت عليه جامعات الغرب وعلومه الحديثة. تلك الكتب التي كانت يومًا ما تُدرَّس في جامعات أوروبا، صارت اليوم جزءًا من تاريخٍ نتغنى به، بينما يقود الغرب العالم بصناعاته ومنجزاته، في حين نقف نحن -في كثير من الأحيان- موقف المتفرج، نقلّد ولا نُنتج، ونستهلك ولا نُبدع، ونعجز أحيانًا حتى عن صناعة أبسط الأشياء.

إن التحول الجذري في المجتمعات يبدأ من ترسيخ ثقافة القراءة والكتابة، فهما المدخل الحقيقي لصناعة الوعي، وبناء الإنسان القادر على الفهم والنقد والإبداع. وليس من المبالغة القول إن القراءة والكتابة لا تقلان أهمية عن الطعام والشراب؛ فالإنسان يتكوّن من جسدٍ وعقل، وكما يحتاج الجسد إلى غذائه، يحتاج العقل إلى ما يغذّيه؛ بل إن القراءة والكتابة هما في جوهرهما الأساس الذي يُمكّن الإنسان من الحصول على طعامه وشرابه، وبناء واقعه، وضمان مستقبله.

لقد سبقتنا مجتمعات أخرى في هذا المجال بأشواط طويلة، ويكفي أن ننظر إلى أعداد الإصدارات السنوية، وحجم دور النشر العالمية، ومستوى الجودة في المحتوى المكتوب، لندرك الفارق الهائل. كما أن مشهد الإنسان الغربي وهو يحمل كتابه في وسائل النقل، أو في المقاهي، أو في أماكن الانتظار، بات أمرًا مألوفًا، يعكس علاقة طبيعية مع المعرفة. في المقابل، نلاحظ في مجتمعاتنا شيوع ثقافة تستهين بالوقت، وتتعامل معه وكأنه فائض لا قيمة له، رغم أننا أحوج ما نكون إلى إدراك قيمة الزمن، واستثماره فيما يصنع وعينا ومستقبلنا.

ولقد استُبدلت في كثير من مجتمعاتنا ثقافة القراءة والكتابة بثقافة التهريج، وبثقافة شفهية مشوّهة، تُقدّم التفاهة على الفكرة، والشهرة على القيمة. وانشغلنا بمتابعة مشاهير السلع والإعلانات، حتى أصبح بعضهم قدوة للشباب، لا لما يحملونه من علم أو رسالة، بل لما يحققونه من انتشار وتسويق. وكم يبعث على الأسف أن نرى مئات الشباب يتجمعون في الأماكن العامة لالتقاط صورة مع أحد مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي، ممن لم يقدّموا لمجتمعاتهم سوى محتوى استهلاكي عابر.

ولو أننا تأملنا أعداد الطلبة الذين يتخرجون سنويًا من مرحلة الدبلوم العام، لوجدنا أنهم بالآلاف، غير أن المفارقة لا تكمن في كثرة العدد، بل في محدودية الشغف. فكم واحدًا من هؤلاء يمتلك علاقة حقيقية مع القراءة والكتابة؟ وكم منهم يفتح كتابًا بدافع الفضول المعرفي، لا بدافع الاختبار؟ سنجد – وبواقعية- أن النسبة ضئيلة، وأن هذا الضعف لا يتلاشى مع الانتقال إلى المرحلة الجامعية، حيث يظل كثير من الطلبة أسرى للمناهج المقررة، ويغيب الاطلاع الحر الذي يصنع الوعي ويُنمّي القدرة على التفكير والنقد.

وهنا تبرز الحاجة إلى إعادة توجيه البوصلة الثقافية عبر استراتيجيات واعية تُعيد للقراءة مكانتها، وتجعل منها ممارسة يومية لا نشاطًا موسميًا. استراتيجيات شاملة تُخاطب جميع المراحل العمرية، وتقوم على المتابعة والتقييم المستمر، لا على المبادرات العابرة. فاستدراك ما فات ما يزال ممكنًا، والوسائل اليوم متاحة أكثر من أي وقت مضى، وما ينقصنا هو الإرادة والتخطيط الجاد، لنرى في القريب شبابًا يصنعون المعرفة، ويبدعون بأفكارهم، ويغدون منارات علم وثقافة حقيقية تسهم في خدمة المجتمع وبناء مستقبله.

ولعل القصة التي يتداولها كثيرون تُجسّد هذه المفارقة المؤلمة بوضوح؛ إذ يُروى أن أحدهم دخل مركزًا تجاريًا، فصادف وجود مفكر وباحث كبير، تجاوزت مؤلفاته مئات الكتب والأبحاث، فاقترب منه، وسلّم عليه، وتبادل معه الحديث. في تلك اللحظة، لم يلتفت إليه أحد تقريبًا. وبعد دقائق، دخل أحد مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي، فتغيّر المشهد بالكامل؛ تجمّع الناس، وارتفعت الهواتف، وازدحم المكان بالتصفيق والتصوير. حينها أدرك الراوي أن المشكلة لم تعد في غياب العلماء، بل في غياب الوعي الذي يُدرك قيمة العالم، ويُميّز بين من يصنع الفكر، ومن يستهلك الانتباه.

إنَّ هذه المفارقة ليست مجرد موقف عابر، بل مرآة تعكس خللًا عميقًا في سلم القيم، واختلالًا في مفهوم القدوة؛ فالأمم لا تنهض بكثرة المتابعين، ولا بعدد المشاهدات، بل تنهض بالعقول التي تقرأ، وتكتب، وتفكر، وتنتج معرفة قادرة على صناعة المستقبل. وحين نُعيد للكتابة مكانتها، وللقراءة قيمتها، ونغرس في الأجيال احترام الفكر وأهله، عندها فقط يمكن أن نبدأ رحلة حقيقية نحو استعادة دورنا الحضاري، لا بوصفنا ماضٍ نتغنى به، بل حاضرًا يُبنى، ومستقبلًا يُصنع.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z