اكتب قصتك

 

 

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

 

ليس كلُّ قائدٍ إداريٍّ يأتي إلى مكتبه ليُداوم فحسب، ولا كلُّ مسؤولٍ يمرُّ على المُؤسسة بوصفه رقمًا في سجلٍّ وظيفي. فكلُّ قائد — شاء أم أبى — يكتب قصةً كاملة عن نفسه منذ اليوم الأول، ويرسم ملامحها مع كل موقفٍ يتخذه، ويُغلق فصولها حين يغادر المكان. هي قصة لا تُكتب بالحبر، ولا تُحفظ في التقارير، بل تُحفر في الذاكرة، لأنَّ أثر القيادة لا يُقاس بالمدة… بل بما تَرك.

ومن هنا تبدأ الحكاية الحقيقية. فهذه القصة لا تصنعها القرارات الكبرى وحدها، بل التفاصيل الصغيرة التي قد لا يلتفت إليها صاحبها: طريقة التحية، أسلوب الحديث، العدل في التقييم، الصدق في الوعد، والقدرة على الاعتراف بالخطأ. فغالبًا ما يتذكّر الناس كيف عاملهم القائد أكثر مما يتذكّرون ماذا قرر، لأنَّ المُعاملة تترك أثرًا أعمق وأطول.

وعندما تقترب لحظة الرحيل، لا تبدأ المحاسبة من الأرقام ولا من التقارير، بل من الأسئلة الصامتة التي تتردّد قبل المعلنة: هل أحسن هذا القائد؟ هل أبدع؟ هل كان حضوره إضافة حقيقية أم عبئًا خفيًا؟ أسئلة تختصر القصة كلها في لحظة صدق واحدة.

ومن هذه الأسئلة يتسع المشهد أكثر، فهل أحسن إلى من أدارهم، ليُحسنوا هم بدورهم إلى من بعدهم؟ هنا لا نتحدث عن سلوكٍ فردي، بل عن سلسلة أثر تبدأ من القائد، وتتسع داخل المؤسسة، وتتحوّل من اجتهادٍ شخصي إلى ثقافةٍ راسخة، ينعكس أثرها على جودة الأداء واستدامة النتائج، ويعود في النهاية على الوطن.

وعند هذه النقطة، يبرز معيار القيادة الحقيقي. فالقائد لا يُقاس بعدد الاجتماعات التي عقدها، ولا بحجم الملفات التي وقّعها، بل بأثره الإنساني قبل الإداري. يُقاس بقدرته على بناء الثقة، وبحكمته في إدارة الاختلاف، وبمسؤوليته في لحظات التعثّر قبل لحظات الرخاء. هو من يدرك أنَّ السلطة أمانة لا امتيازا، وأن القيادة وعيٌ أعمق لا صوتٌ أعلى.

ومن هذا الفهم، تتشكّل البيئات المؤسسية. فهناك قادة ينجحون في صناعة بيئة عمل تُشجّع على المبادرة لا الخوف، وعلى السؤال لا الصمت، وعلى المحاسبة العادلة لا الانتقائية. في مثل هذه البيئات، تتحوّل الثقة إلى دافع، والمسؤولية إلى قناعة، والعمل إلى شراكة. يرحلون، لكنهم يتركون خلفهم فرقًا أكثر نضجًا، ونمطًا إداريًا يستمر لأنه كان مقنعًا… لا مفروضًا.

لكن ليست كل القصص تُكتب بهذا الاتساق. في المقابل، هناك من يكتب قصةً أخرى؛ قصة لا تُروى بفخر، بل تُستدعى للتحذير. يغادر، فيتجنّب الناس ذكر اسمه، ولم يترك وراءه سوى أثرٍ مثقل وقرارات مرتبكة، لأنه لم يُدرك أن القيادة اختبارٌ أخلاقي قبل أن تكون منصبًا وظيفيًا.

وبين هذين النموذجين، يقف مشهد ثالث أقل صخبًا. قادة عاديون. لم يُسيئوا كثيرًا، ولم يُحسنوا بما يكفي. أدّوا الحد الأدنى، وفضّلوا السلامة على الأثر. مرّوا بهدوء، وخرجوا بصمت، فلا ذِكر يُستعاد، ولا نقد يُروى. تبتلعهم ذاكرة النسيان لأنَّ الحضور بلا أثر يشبه الغياب.

والمفارقة اللافتة، أنَّ الجميع عملوا في الظروف ذاتها تقريبًا، لكن الفارق كان في الاختيار الشخصي. فالقائد هو من يحدّد أي قصة يُريد أن تُروى عنه: قصة إحسانٍ تُلهم، أو قصة إساءةٍ تُتجنّب، أو فراغًا صامتًا لا يُلتفت إليه.

ختاماً، يعود السؤال إلى صاحبه. تزول المناصب، وتنتهي التواقيع، وتُسلَّم المكاتب، لكن القصة تبقى. تبقى في ذاكرة الناس، وفي ثقافة المؤسسة، وفي الطريقة التي يُدار بها العمل بعدك. لذلك، قبل أن تسأل: ماذا أنجزت؟ وكم بقيت؟ اسأل نفسك السؤال الأصدق: أي قصة أكتب عن نفسي اليوم… وكيف أريد أن تُروى غدًا؟

 

 

الأكثر قراءة

z