بعد عامين على الحرب: ماذا خسر الفلسطينيون وماذا كسبوا؟

 

 

 

د. أحمد يوسف

 

بعد مرور عامين على الحرب الأكثر قسوة في تاريخ الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، لم يعد ممكنًا الاكتفاء بلغة التبرير أو التعبئة، ولا القفز فوق سؤال التقييم والمساءلة. فالحروب، مهما كانت دوافعها، تُقاس بنتائجها ومآلاتها، وبقدرتها على خدمة المشروع الوطني، لا فقط بإظهار الصمود أو إلحاق الأذى بالعدو. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو: ماذا خسر الفلسطينيون؟ وماذا كسبوا؟ وهل تعكس الخطابات السياسية السائدة واقع ما جرى فعلاً؟

كلفة الحرب: الخسارة التي لا يُمكن إنكارها.

الخسارة الأشد كانت إنسانية بامتياز. عشرات الآلاف من الشهداء، غالبيتهم من المدنيين، ودمار غير مسبوق طال البيوت، والمستشفيات، والمدارس، والبنية التحتية، وانهيار شبه كامل لمقومات الحياة في قطاع غزة. هذه الكلفة لم تكن عابرة ولا مُؤقتة، بل ستترك آثارًا اجتماعية ونفسية واقتصادية لعقود قادمة.

سياسيًا، تعمّق الانقسام الفلسطيني بدل أن يُعاد ترميمه. فالسلطة الوطنية الفلسطينية بدت أكثر ضعفًا وعجزًا، محاصَرة في دور إداري وأمني محدود، بلا أفق سياسي، وبلا قدرة حقيقية على التأثير في مجريات ما بعد الحرب. أما غزة، فقد خرجت مُنهكة، معلّقة بمصير تفاهمات إقليمية ودولية لا تملك أدوات التأثير فيها، وأكثر اعتمادًا على المساعدات وشروط الخارج.

كما أن الحرب لم تُفضِ إلى إعادة الاعتبار للمشروع الوطني الجامع، بل أسهمت في تآكل مرجعياته، وفي ترسيخ واقع "إدارة الصراع" بدل السعي الجاد إلى إنهائه.

ما الذي كُسب؟ تحوّل الوعي واتساع الاعتراف

في المُقابل، لا يمكن تجاهل أن الحرب أحدثت تحوّلًا مهمًا في المشهد الدولي، لا سيما على مستوى الرأي العام الغربي. فقد اتسع نطاق الاعتراف بالقضية الفلسطينية بوصفها قضية حقوق وإنهاء استعمار، لا مجرد نزاع أمني. وبدأ وعي جديد يتشكل، خاصة في أوساط الشباب، والنخب الأكاديمية، والإعلامية، ومنظمات المجتمع المدني.

الأهم من ذلك أن الرواية الإسرائيلية التقليدية، القائمة على احتكار "المظلومية التاريخية" عبر الهولوكوست، وعلى توظيف تهمة "معاداة السامية" لإسكات أي نقد، فقدت جزءًا كبيرًا من فاعليتها. بات قطاع واسع من الرأي العام الغربي قادرًا على التمييز بين معاداة اليهود كدين أو قومية، وبين نقد سياسات دولة تمارس الاحتلال والحصار، وتُتهم، على نطاق قانوني وحقوقي متزايد، بارتكاب أفعال ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.

هذا التحول لم يأتِ نتيجة جهد سياسي فلسطيني منظم، بقدر ما فرضه مشهد الدمار المفتوح، وصور الضحايا، واستهداف المدنيين بلا رادع. ومع ذلك، يبقى تحوّلًا مهمًا، كسر احتكار الرواية، وفتح نافذة كان يُعتقد أنها مغلقة بإحكام.

خطاب حماس: بين الإنجاز الخارجي والكارثة الداخلية

غير أن الإشكالية الكبرى تكمن في الخطاب السياسي لحركة حماس بعد الحرب. فبينما يُكثِر الخطاب من الحديث عن "الإنجاز" و"الصمود"، يغيب إلى حد كبير الاعتراف الصريح بحجم الكارثة الداخلية، أو أي مراجعة نقدية للقرارات التي قادت إلى هذه الكلفة الهائلة.

لا يُطلب من أي حركة مقاومة أن تتخلى عن حقها في مقاومة الاحتلال، لكن يُنتظر منها، سياسيًا وأخلاقيًا، أن تُخضع خياراتها المصيرية لتقييم عقلاني، وأن توازن بين الفعل المقاوم ومصلحة المجتمع، وأن تسأل بوضوح: هل كانت النتائج متناسبة مع التضحيات؟ وهل تم توظيف التحول الدولي سياسيًا، أم جرى الاكتفاء بتسجيله كإنجاز معنوي؟

الإصرار على خطاب انتصاري في ظل واقع إنساني منهار لا يعزز موقع الحركة، بل يوسّع الفجوة بينها وبين قطاعات واسعة من شعبها، ويضعف قدرتها على التحول إلى فاعل وطني جامع.

السلطة الوطنية والمستقبل المعلّق

أما السلطة الوطنية الفلسطينية، فقد بدت، مرة أخرى، خارج لحظة التحول. فهي لم تنجح في استثمار التحول الدولي المتزايد، ولا في استعادة دورها التمثيلي، ولا في تقديم نفسها كعنوان سياسي قادر على قيادة مرحلة ما بعد الحرب. استمرار هذا الوضع يهدد بمزيد من التهميش، وربما بإعادة هندسة المشهد الفلسطيني من خارج الإرادة الوطنية.

خاتمة: ما بعد الحرب… اختبار الوعي لا الشعارات

بعد عامين على الحرب، يمكن القول إن الفلسطينيين خسروا كثيرًا على المستوى الإنساني والداخلي، وكسبوا تحولًا مهمًا في الوعي العالمي والاعتراف بالقضية. لكن هذا الكسب سيظل هشًّا، وقابلًا للتبديد، ما لم يُقابَل بمراجعة وطنية شاملة، وخطاب سياسي صادق مع الناس، ومشروع جامع يعيد الاعتبار للوحدة، والتمثيل، والعقلانية السياسية، ويوقف مخططات التهجير القسري.

السؤال لم يعد: من انتصر؟ بل: هل نملك الشجاعة لتحويل الألم إلى وعي، والتعاطف إلى مكسب سياسي، والحرب إلى درس يمنع تكرار ما وقع من كارثة ونكبة إنسانية في قطاع غزة من الحدوث في الضفة الغربية ؟

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z