خالد بن أحمد العامري
منذ اللحظة التي يتنازل فيها صاحب الأرض عن شبر واحد، يبدأ المسار الطبيعي لفقدان الحق كله؛ فالتاريخ يخبرنا أنَّ التنازل الجزئي لا يقود إلى السلام، بل يُقرأ دائمًا بوصفه ضعفًا، وهو ما يدفع الطرف الآخر، إلى طلب المزيد، حتى يصبح التنازل الكامل مسألة وقت لا أكثر.
تاريخيًا، تقدم الولايات المتحدة مثالًا صارخًا على هذا المسار؛ فقد نشأت على حساب السكان الأصليين (الهنود الحمر) عبر تنازلات تدريجية فرضت تحت ذرائع التعايش والسلام. وقد تجاوز عدد الاتفاقيات التي عُقدت بين أصحاب الأرض الأصليين والمستعمر الأوروبي 300 اتفاقية، جرى نقضها جميعًا. ومع كل تنازل، تقلص الوجود السياسي للسكان الأصليين، حتى حُوصروا في محميات معزولة لا يملكون فيها سيادة ولا قرارًا.
وهذا المسار الاستعماري ذاته، القائم على التنازل التدريجي ثم الإلغاء الكامل للحقوق، يتكرر اليوم بحذافيره في فلسطين، التي شهدت سلسلة طويلة من التراجعات والتنازلات العربية تحت عناوين «السلام» و«الواقعية السياسية». فمن كامب ديفيد (1978)، إلى أوسلو ووادي عربة، وصولًا إلى اتفاقيات أبراهام (2020) للتطبيع، كل هذه الاتفاقيات بُنيت على وعود أمريكية هلامية بحل القضية الفلسطينية، سرعان ما تذوب عند أول اختبار، لتتحول القضية تدريجيًا من مسألة تحرر وطني إلى مجرد «ملف تفاوضي». والنتيجة واحدة: تراجع إضافي في الموقف العربي، وشرعنة متصاعدة للاستيطان بدعم أمريكي مباشر، وتآكل متواصل للحق الفلسطيني. ومن يقبل بحصر فلسطين في حدود 1967 يعترف ضمنيًا بشرعية نتائج نكبة 1948، وهي أخطر نقاط الصراع سياسيا وقانونيا.
ومع التحولات الكبرى التي أحدثها طوفان الأقصى، والأحداث المتلاحقة في سورية ولبنان، وقبلها العراق وليبيا، والصراع في السودان واليمن، وحرب الاثني عشر يومًا على إيران، أصبح الدور الأمريكي أكثر وضوحًا. فواشنطن لا تتعامل مع القضية الفلسطينية بوصفها قضية حقوق وطنية، بل باعتبارها مسألة أمن إقليمي، هدفها الأول حماية المستوطنين الإسرائيليين وتثبيتهم على أرض فلسطين التاريخية وضمان تفوقهم.
وقد عبّر عن هذه الرؤية بوضوح المبعوث الأمريكي توم باراك في سبتمبر 2025، حين وصف الشرق الأوسط بأنه «تجمعات لقبائل وقرى» لا دول ذات سيادة راسخة؛ وهو تصريح لا يعكس زلة لسان، بل رؤية أمريكية تقوم على تفكيك البنية السياسية القائمة، وإعادة صياغة المنطقة بما يخدم مركزية القرار وضمان أمن «إسرائيل الكبرى»، وهو ما تسعى واشنطن إلى فرضه عمليًا.
واللافت أن هذا المشروع لا يفرض بالقوة وحدها، بل عبر أدوات داخلية، حيث يُستبدل الإقناع باختراع أعداء مذهبيين وقوميين، لإشغال الناس وإغراقهم في أوهام الصراع وتفتيت وعيهم.
وفي هذا السياق، بات بعض الساسة العرب، ومعهم نخب دينية وثقافية، يتماهون مع المشروع الأمريكي عبر تأجيج الصراعات المذهبية والدينية، وتفكيك حركات المقاومة، وملاحقة القوى الرافضة للهيمنة الأمريكية، تمهيدا لقلب أنظمة الحكم وتسليمها لقوى وظيفية تؤدي أدوارًا تخدم الاستراتيجية الأمريكية، وتوفر لإسرائيل أمنا عربيا وإسلاميا عجزت عن فرضه عسكريًا.
وبعد هذا التاريخ الطويل من الرهان على الدور الأمريكي، ومن التراجعات والانخراط في مفاوضات سلام لم تجلب للعرب سوى المزيد من الخسائر، ألم يحن الوقت لمراجعة الحسابات الضيقة التي يتبناها بعض الساسة العرب؟
أولئك الذين يراهنون على أن السير في الخط الأمريكي سيحمي دولهم من التفكك ويضمن لهم البقاء في السلطة، بينما يثبت الواقع أن هذا الرهان كان وسيبقى رهانًا خاسرًا؛ فالقوى الكبرى لا تمنح حماية مجانية، بل تتحالف وفق المصالح، وتتخلى عن حلفائها فور انتهاء أدوارهم.
إن الحق في فلسطين التاريخية ليس ملكًا لسلطة سياسية أو قيادة مرحلية، بل هو حق شعب وأمة، من يتنازل عن شبر يتنازل عن الكل.
الحقوق لا تتجزأ، والأرض لا تسترد بخفض السقوف ولا بالتنازل بذرائع الواقعية السياسية، بل بالتمسك بأصل الحق وجذوره التاريخية، والحق إذا بدأ التفريط فيه، انتهى بفقدانه.
