خالد بن حمد الرواحي
ليست كل المشكلات في بيئات العمل ظاهرةً للعيان؛ فبعضُها يولد في الصمت، ويكبر في الخفاء، ويتغذى على المقارنة أكثر مما يتغذى على الوقائع. ومن بين أخطر هذه المشكلات ما يمكن وصفه بـ "النجاح المُستفِز"؛ ذلك النجاح الذي يتحول، في نظر البعض، من قيمةٍ مضافة للمؤسسة إلى مصدر توترٍ غير معلن يثقل العلاقات ويُربك المشهد المهني.
النجاح، في بعض البيئات، لا يُستقبل دائمًا بالترحيب؛ بل يُقابَل أحيانًا بالتشكيك أو التحجيم أو السعي إلى تقليص أثره؛ لا لأن صاحبه أخطأ؛ بل لأنه تميز. وقد يصدر هذا السلوك من زميلٍ يرى في نجاح غيره تهديدًا لمكانته، أو من مسؤولٍ يخشى أن يسطع نجم أحد أفراد فريقه أكثر مما اعتاد. ومع الوقت، يتحول هذا الإحساس الصامت إلى ممارساتٍ ملموسة تُربك بيئة العمل وتشوه العلاقات المهنية.
تبدأ مظاهر هذا السلوك غالبًا بالتقليل من الإنجازات؛ إذ يُفسر النجاح بأسبابٍ خارجية، ويُتجاهل الجهد الحقيقي الذي بُذل للوصول إليه. وفي أحيانٍ أخرى، يظهر بصورةٍ أكثر خفاءً، حين تُلتقط الأفكار في الاجتماعات، ثم تُعاد لاحقًا بصياغة مختلفة وكأنها وُلدت في ذهنٍ آخر. ومع الوقت، قد تنقلب المنافسة من سعيٍ صحي لتحسين الأداء إلى انشغالٍ بمراقبة الآخرين، أو تتبع أخطائهم؛ بل ونشر شكوكٍ صغيرة تتراكم حتى تتحول إلى شائعات تُثقل المناخ المهني.
وراء هذا السلوك أسبابٌ متداخلة، في مقدمتها ضعف تقدير الذات؛ إذ يشعر بعض الموظفين أن نجاح غيرهم انتقاصٌ منهم، لا فرصةً للتعلم أو التطور. كما تلعب الرغبة في الاحتكار وحب الاستحواذ دورًا في رفض فكرة أن يتقدم الآخرون خارج دائرة السيطرة. وتزداد حدة هذه الظاهرة في البيئات التي تُغذي التنافس المفرط، دون أن تُسنده بمعايير عادلة وواضحة.
الخاسر الأكبر هنا ليس الفرد وحده؛ بل المؤسسة بأكملها. فالنجاح المُستفِز- حين يُواجَه بالمقاومة بدل الاحتواء- يُعرقل نمو الكفاءات، ويُضعف روح الفريق، ويزرع الشك بدل الثقة. ومع مرور الوقت، تتحول بيئة العمل إلى مساحةٍ حذِرة، تسودها المجاملات وتغيب عنها المبادرة، فتتراجع الإنتاجية، ويغادر الموهوبون بصمتٍ يترك أثره العميق.
ولا يمكن فصل انتشار هذا السلوك عن نمط القيادة السائد في المؤسسة. فالقائد الذي يُكافئ الأشخاص لا الجهود، أو يقرب من يُجيد الثناء أكثر ممن يُجيد العمل، يفتح الباب- دون قصد- أمام ثقافة مقارنة سامة. وفي المقابل، فإن القيادة العادلة التي توزع التقدير بشفافية، وتربط الإنجاز بمعايير واضحة، تُقلص مساحات التوتر وتحول التفوق إلى دافعٍ تنافسي صحي؛ فالموظفون لا يعترضون على نجاح زملائهم بقدر ما يقلقهم غياب العدالة في الاعتراف بالجهد.
أما الموظف الذي يجد نفسه في موقع النجاح المُستفِز، فمواجهته لا تكون بالصدام ولا بالانسحاب. فالتركيز على الأداء وتطوير الذات يظل الخيار الأذكى؛ إذ إن الكفاءة الحقيقية يصعب إخفاؤها طويلًا. كما أن توثيق الإنجازات، والحرص على وضوح الأدوار، والوعي بحدود مشاركة الأفكار، عواملُ تمنح حمايةً مهنية عند الحاجة. ومع اللجوء إلى الدعم المؤسسي إذا تفاقمت المشكلة، يمكن حماية المسار المهني دون الانزلاق إلى صراعات جانبية.
ومن المهم التمييز بين المنافسة المهنية المشروعة والنجاح المُستفِز. فالمنافسة الصحية تدفع إلى التطور والتعلم وبذل الجهد، أما تحويل نجاح الآخرين إلى مصدر قلقٍ أو تهديد، فيقود إلى تعطيل الطاقات بدل توظيفها. وعندما تضيع هذه الحدود داخل بيئة العمل، تخسر المؤسسة فرصة تحويل تنوع القدرات إلى قوةٍ جماعية فاعلة.
في النهاية، لا يُقاس نضجُ المؤسسات بغياب الخلافات؛ بل بقدرتها على إدارة السلوك قبل إدارة الملفات. فحين يُمنَح الجهدُ حقه، ويُحتفى بالإنجاز دون انتقاص، يتحول النجاح إلى مصدر إلهامٍ للجميع. أما إذا تُرك بلا وعيٍ أو معالجة، فقد يتحول- على غير حق- إلى عامل إرباكٍ يُطفئ الحماسة ويُعتم المكان بأكمله.
