أنور الخنجري
في المدن التي تولد على حافة البحر، لا يكون التاريخ مجرد ما يُكتب في السجلات؛ بل ما يتركه الموج من أثرٍ في النفوس والوجدان. ومطرح- ببحّارتها وتجّارها وطرقاتها التي تفوح برائحة المِلح- ليست مدينةً يسيرة على النسيان؛ فهي تُمسك ذاكرتها كما يمسك النوخذة دفة السفينة بثبات، وبإحساسٍ عميق بأنَّ الماضي ليس عبئًا؛ بل بوصلة.
ومن بين كل ما مرَّ على شاطئها من سفن، بقيت "سعد الكريم" أغرب تلك البوصلات؛ سفينة غرقت منذ زمن، لكنها لم تغب عن حديث النَّاس، وكأن البحر ابتلع جسدها وترك روحها طافية فوق الذاكرة.
كان ميناء مطرح في منتصف القرن العشرين مسرحًا نابضًا بالحياة، تتقاطع فيه طرق التجارة القادمة من الهند وزنجبار واليمن والبصرة. غير أن ما بقي حيًا في وجدان الناس لم تكن أصوات السوق وحدها، ولا رائحة البهارات؛ بل تلك السفينة الخشبية التي امتلكها النوخذة المعروف الحاج عبدالفتاح بن محمد المعيني، والتي تحوَّلت إلى رمزٍ من رموز المدينة.
لم تكن "سعد الكريم" مجرد وسيلة نقل؛ بل سفينة تحمل روح مطرح إلى المرافئ البعيدة، وتحفظ في أضلاعها الخشبية صدى أهازيج البحارة وذكريات رحلات طويلة. اسمها كان يُوحي بالطمأنينة، وكأنَّها وُلدت لتعود دائمًا، لكن البحر- كعادته- لا يقرأ الأسماء، ولا يوقّع مع أحد اتفاقيات أمان. ففي عام 1942، وفي ذروة الحرب العالمية الثانية، كانت السفينة في رحلة اعتيادية بين الهند وعدن. لم يتوقع طاقمها أن تمتد أصداء الحرب العالمية إلى هذه المياه التي اعتاد العُمانيون عبورها بثقة البحارة القُدامى، لكن البحر في ذلك اليوم حمل ضجيج العالم فوق سطحه؛ حيث باغتت غواصة ألمانية السفينة قبالة الحد الجنوبي للجزيرة العربية، وأطلقت طوربيدًا وحيدًا بدّد مسار رحلة كانت تبدو عادية. غرقت "سعد الكريم" سريعًا بحمولتها، وغرق معها معظم من كانوا على متنها، لكن الحكايات العظيمة تحتاج من يرويها؛ ولذلك نجا بعض البحارة بفضل "الجالبوت" الذي ظلَّ يتأرجح فوق الموج كقاربِ نجاةٍ كُتب له أن يحفظ بقايا الذاكرة. وكان من بين الناجين الفتى اليافع محمد، ابن مالك السفينة، الذي قيل إن تلك الرحلة كانت الأولى له، وربما تجربته الأخيرة مع البحر. كما كان من بين الناجين عدد من البحارة، من رجال مطرح الأشاوس.
منذ تلك الحادثة، أصبحت "سعد الكريم" جزءًا من الذاكرة الشعبية للمدينة. تُروى قصتها في المجالس، وعلى أرصفة الدكاكين في سوق مطرح، وفي ليالي رمضان حين تَفتح الحكايات أبوابها. كبار السن يروونها كما لو أنَّ السفينة مخلوق حيّ، قاوم، ثم استسلم، لكنه بقي حاضرًا. والجيل الجديد ورث الحكاية لا بوصفها تاريخًا فقط؛ بل بوصفها إحساسًا بالانتماء إلى مدينة تعرف كيف تحفظ رموزها، فصار اسم السفينة يظهر في كل قصة تُحكى عن رجال البحر والشجاعة والزمن الذي كان فيه الخشب أقوى من الحديد، والرجال أصلب من صخور الساحل. وهكذا ورث أبناؤهم الحكاية، يتخيلون السفينة تعود إلى الميناء وعند الرحيل ترفع أشرعتها أولًا، كما كانت تفعل دائمًا.
ومع مرور العقود، تداخلت الوقائع مع الخيال الشعبي؛ وهذا ليس عيبًا؛ فالسفن العظيمة لا تُحفظ بالوثائق وحدها؛ بل بما تنسجه الذاكرة الجماعية من طبقات فوق الحكاية الأصلية. وهكذا تحوَّلت "سعد الكريم" إلى رمزٍ لعصرٍ كامل من التجارة البحرية العُمانية، عصرٍ كان العُمانيون فيه يجوبون المحيطات ويصنعون أفقًا أوسع لعلاقتهم بالعالم.
اليوم.. حين يسير المرء على رصيف ميناء مطرح أو على كورنيشها، قد يسمع- إن أصغى جيدًا- صوتًا خافتًا يأتي من جهة شاطئ حارة الشمال: طرقات تشبه ضرب المطارق على الخشب الرطب، صرير حبلٍ ينزلق على سارية، أو نداء بحّارٍ لم يعد هنا. وقد يتخيل وقع مطارق عائلة السقطري على المسامير المتّقدة، أو صيحات الصوماليين وهم يخيطون الأشرعة على الساحل، أو حماس القطان حبيب وهو يعيد تدوير المفارش المتهالكة لبحارة البندر.
خاتمة القول.. إن المدن التي تُحسن قراءة ذاكرتها، تُحسن فَهم حاضرها. ومطرح- بما تحمله من تاريخٍ طويل مع البحر- ليست بحاجة لتمثالٍ كي تتذكر "سعد الكريم"؛ لأنَّ السفينة تحوَّلت إلى رمز داخلي، تُبحِر في الوجدان لا في الماء. وربما يكون الدرس الذي تتركه لنا هو أنَّ الأشياء حين تغرق لا تنتهي؛ بل تبدأ مرحلة جديدة من حياتها: مرحلة البقاء في الذاكرة. فالسفن كثيرة، والرحلات لا تُعدّ… لكن القليل منها يتحول إلى أسطورة. و"سعد الكريم"- رغم غرقها- واحدة من تلك الأساطير التي تُذكِّرنا بأنَّ بعض الخسارات، مهما كانت موجعة، هي ما يمنح المدن هُوِيَّتها، ويَمُد الناس بجذورهم في الأرض… وفي البحر.
