د. ريم بنت محمد الحشار
مستشارة في رفاهية المؤسسات والأعمال
يُمثّل الأمان الوظيفي إحدى الركائز الجوهرية لرفاهية الأفراد واستقرارهم داخل المؤسسات، إذ يشكّل عاملًا محورياً في جودة الحياة المهنية واستمرارية الأداء والإنتاجية. ويقوم هذا المفهوم على حاجة إنسانية عميقة ترتبط بالشعور بالاستقرار النفسي والمهني، مما يجعل فهمه وتطبيقه ضرورة استراتيجية لكل مؤسسة تسعى إلى خلق بيئة عمل صحية ومنتجة.
وتزداد أهمية الأمان الوظيفي في ظل ما يواجهه عالم الأعمال من تغيرات مُتسارعة وضغوط متزايدة. ويُسهم غياب الأمان في تراجع الصحة النفسية وانخفاض مستوى الرضا واضطراب وضوح الدور الوظيفي.
وتحتم الحاجة البشرية للأمان، بناء وتطوير نظريات تستند على دراسات دقيقة تدرس السلوك البشري لضمان حصول الافراد على المستوى المطلوب من الاحتياجات البشرية الساعية لتحقيق استقراره وضمان الجودة المعيشية العالية. وقد طور الكثير من علماء النفس والمختصين في دراسة السلوك البشري عبر الزمان نظريات عديدة ظهر أبرزها نظرية الدافع البشري، لأبراهام ماسلو، عالم النفس الأمريكي، والذي طرح هرم الاحتياجات البشرية في مفهومه لأول مرة في بحثه عام (1943). وهي نظرية تحفيزية من خمس طبقات تُحدد دوافع السلوك البشري؛ حيث ركّز ماسلو على دراسة الصفات الإيجابية لدى الناس، بدلًا من اتباع نهج معظم علماء النفس الذين سبقوه، والذين ركّزوا على الصفات والسلوكيات غير الطبيعية.
وتُعدّ الاحتياجات الفسيولوجية الأكثر أهمية في طبقات ماسلو الخمس، وهي الحاجة للهواء والطعام والشراب والمأوى والمَلبس والدفء والاحتياجات الغرائزية والنوم. وفي سياق العمل، فإنَّ الاحتياجات الفسيولوجية تشمل الأجر الملائم للعيش والعمل المستقر.
تليها، احتياجات السلامة؛ حيث يرغب الناس في الأمن والنظام والاستقرار في حياتهم. وتشمل خدمات الشرطة والتعليم والرعاية الطبية. ومن جوانب السلامة في مكان العمل: الشعور بالأمان والدعم العاطفي، ويشمل ذلك الحصول على عقود عمل رسمية ومزايا مثل المعاش التقاعدي والإجازات المرضية. وان كان الموظف قلقًا بشأن فقدان وظيفته، فسيكون من الصعب عليه الشعور بالتحفيز والجودة في الأداء
ويتدرج الاحتياج الاجتماعي ثالثًا صعودا في هرم ماسلو، والذي يقاس مهنيًا من خلال تعزيز العمل الجماعي بين الفرق والأقسام والمستويات؛ وتشجيع بناء الفريق من خلال الأنشطة الاجتماعية؛ واستخدام أدوات التواصل بفعالية خاصة خلال التعامل عن بُعد.
وتأتي رابعًا احتياجات التقدير كالإنجاز والاحترام وتقدير الذات وهنا صنفها ماسلو إلى فئتين: الأولى تقدير الذات بالإنجاز والإتقان والاستقلالية والكرامة والثانية، بالرغبة في السمعة أو الاحترام من الآخرين كالمكانة الاجتماعية والهيبة.
ويشير المستوى الخامس الأعلى في الهرم إلى تحقيق الذات والسعي إلى النمو الشخصي وبلوغ ذروة التجارب. ويصف ماسلو قمة الهرم بأنها الرغبة في إنجاز كل ما في وسع المرء للوصول إلى أقصى ما يمكن أن يكون عليه. ويُترجم في سياق العمل بالاستقلالية والعمل الشاق والمكانة المرموقة كخبير مثلًا في مجال معين.
واقترح ماسلو في البداية ضرورة إشباع الاحتياجات ذات المستوى الأدنى قبل الانتقال إلى الاحتياجات ذات المستوى الأعلى. ومع مرور الوقت، لاحظ ماسلو أيضًا أن ترتيب الاحتياجات يمكن أن يكون مرنًا بناءً على الظروف الخارجية أو الفروق الفردية. وأوضح أن معظم السلوكيات تتحدد في آنٍ واحد بأكثر من حاجة واحدة. لا ينتقل بينها الناس بالضرورة عبر التسلسل الهرمي في اتجاه واحد، ولكن قد يتنقلون بين الاحتياجات الخمس بشكل مختلف؛ باختلاف تجاربهم الحياتية
وتوازيًا مع ما أسلفنا ذكره، فقد صاغ جورج إنجل النموذج البيولوجي النفسي الاجتماعي للصحة (1977)؛ حيث رأى أن الحالة الصحية للشخص تتحدد بعوامل نفسية واجتماعية، بالإضافة إلى عوامل بيولوجية وفسيولوجية؛ حيث إنه ينبغي مراعاة العوامل النفسية الاجتماعية المهنية وغير المهنية عند تقييم العامل المشتبه به ليكون السبب في الاصابات المهنية، او لنقل السبب وراء الاعتلال النفسي وانعدام الشعور بالأمان.
وقد عرَّفت منظمة الصحة العالمية (2022)، الصحة النفسية الجيدة للأفراد بأنها حالة من العافية النفسية تُمكّن الافراد من مواجهة ضغوط الحياة وتنمية قدراتهم والتعلم الجيد والعمل بكفاءة والمساهمة في مجتمعهم. كما أنها لا تقتصر على مجرد غياب أي اضطراب نفسي أو انعدام المشاكل والتحديات والشدائد، بل تشكل العالم الذي نعيش فيه وأنها جزء أساسي لا يتجزأ من الصحة والرفاهية، حيث تُعزز القدرات الفردية والجماعية على اتخاذ القرارات وبناء العلاقات الصحية.
وقد أوضحت الباحثة بيريز، في دراستها عام (2025) التي تناولت آثار انعدام الأمن الوظيفي على الصحة النفسية والمشاركة في العمل، والتي تبرز نتائجها الأهمية الحاسمة لانعدام الأمن الوظيفي وتأثيره على الصحة النفسية للأفراد ومواقفهم المهنية. وتُبرز أن الثقة بالنفس تُعدّ موردًا فرديًا حيويًا، بينما يُمثّل دعم المشرف او القائد موردًا تنظيميًا مُعقّدًا يُمكنه إما تعزيز الآثار الإيجابية أو تفاقم الآثار السلبية في سياق الرفاهية النفسية في بيئة العمل.
وإذا ما رأينا الدور المحوري الذي يشكله القائد الذي يتصف باعتلال في سِماته النفسية، والتي تُسهم بشكل مباشر في تفاقم الآثار السلبية في سياق الرفاهية النفسية في بيئة العمل، فأنه من الواجب فهم الآليات الممكنة من صعود الأفراد ذوي السمات النفسية المعتلة أو المَرَضية إلى السلطة والقيادة. فبينما قد تُحفّز بعض السمات القيادية وتظهر بشكل إيجابي في القادة المصابين باعتلال نفسي، مثل الجرأة والطموح المستمر، فإن هذا المزيج القيادي- عند اقترانه بانعدام الأخلاق والندم- يُشكّل خطرًا كبيرًا، وقد يكون مُدمّرًا، على المؤسسات.
وتُسلّط دراسة بول بابياك وروبرت د. هير (2006) الخبيران الرائدان في مجال الاعتلال النفسي، الضوء في كتابهما ثعابين في بدلات، إنّ المعتلين نفسيًا غالبًا ما يكونون ماهرين للغاية في قراءة الآخرين، ويمتلكون مهاراتٍ عاليةً في التواصل اللفظي (غالبًا ما تُعزى إلى ثقتهم الكبيرة بأنفسهم)، وموهوبين في إدارة الانطباعات. وهذه المهارات، عند اقترانها بنقصٍ في التعاطف والندم، يُمكن أن تُؤدي إلى أسلوب قيادةٍ قويّ، وإن كان مُدمّرًا.
ويتشكل سلوك الأفراد ذوي السمات النفسية المعتلة أو المَرَضية من انخفاض حساسيتهم للتأثير السلبي. فاللوزة الدماغية، المسؤولة عن معالجة الخوف، تكون متفاعلة بشكل أقل لدى هذه الفئة. وقد يبدو الأفراد ذوي السمات النفسية المتطرفة بلا خوف. وذلك لإنهم عمومًا يظهرون استجابة أقل للمحفزات السلبية من جميع الأنواع. وقد يجدون مثل هذه المواقف ممتعة بدلاً من أن تكون تهديدًا، يتطلب ردت فعل سلوكية متفاعلة مع الموقف. وبينما تظهر الصورة النمطية السلوكية انهم يفتقرون إلى التعاطف، إلا أن هذا ليس صحيحًا تمامًا. فغالبًا ما يتمتع المعتلين نفسيًا بتعاطف إدراكي جيد، ولكنهم يفتقرون إلى مشاركة المشاعر مع الآخر. كما إنهم يمتلكون استجابة متدنية لألمهم مما يفرض عليهم عدم الاستجابة لآلام الآخرين.
ويتضح مما سبق؛ أن الأمان الوظيفي ليس مجرد عنصر ثانوي أو مطلبًا تكميليًا، بل هو ضرورة أساسية لبناء مؤسسات قوية وقادرة على الاستمرار في بيئة متغيرة. ويتطلب تحقيقه وجود قيادة متوازنة نفسيًا وعاطفيًا، قادرة على فهم الاحتياجات الإنسانية للموظفين، واتخاذ قرارات مدروسة تعزز من جودة الحياة المهنية. فالأمان الوظيفي هو الانطلاقة الحقيقية نحو بيئة مهنية أكثر صحة وأكثر قدرة على مواجهة التحديات التي تحمي استقرار واستدامة المؤسسات وترفع من مستوى إنتاجية ورفاهية الموظفين.
