كيف تهرب منه.. إنه قدرك!

 

 

د. إبراهيم بن سالم السيابي

 

عاد بعد غياب طال أكثر مما ظنّت، فتح الباب ببطء وكأنَّ العمر كله يثقل كتفيه.

نظرتْ إليه أخته بعين الأم التي غربت شمسها منذ سنين، فاقتربت منه، وضعت يدها على كتفه وقالت بصوتٍ خافت:

"اشتقت إليك يا أخي…"

جلس أمامها، أرسل تنهيدة طويلة كأنَّها تحمل سنوات من الكلام المؤجل، ثم قال:

"أحاول الهرب… لكنه قدري".

ابتسمت ابتسامة تعرفه أكثر مما يعرف نفسه، ومسحت على يده كما كانت تفعل يوم كان طفلًا لا ينام إلا على صوتها:

ألم يقل نزار يومًا: (وَكيفَ أهربُ مِنهُ؟ إنَّهُ قَدَري // هل يملك النهر تغييرًا لمجراه؟)

ثم أضافت برفق:

"فكيف تهرب منه وهو قدرك؟ أنت تمضي فيه، لا منه".

إنه قدرك… في نفسك.

قدرك أن تحمل قلبًا أثقلته التجارب، يشتعل أحيانًا باليقين، ويخبو أحيانًا تحت وطأة الحزن.

قدرك أن تظهر قويًّا أمام الجميع، بينما تقاتل وحدك في الداخل.

قدرك أن تعاتب نفسك، أن تراجع خطواتك، أن تندم على أشياء لم تكن منك خطأً؛ بل كانت درسًا، وأن تتعلم أن الطريق إلى السلام الداخلي يبدأ حين تقبل ذاتك كما هي، لا كما يريدك الآخرون.

قدرك مع أهلك… أن تبحث فيهم عن الطمأنينة، وأن تجدها أحيانًا ناقصة، أحيانًا متأخرة، وأحيانًا مؤلمة. قدرك أن تختلف معهم، أن تغضب، أن تصمت، ثم تعود إليهم لأنك تعلم أن الدم لا يخذل مهما طال الخصام.

قدرك أن تفهم متأخرًا أنَّ بعض المحبة لا تُقال، بل تُمارس، وأن بعض القلوب تحميك دون أن تفهم أنت كيف.

قدرك مع الرفاق … أن تمنحهم أكثر مما يجب، وأن تتلقى في المقابل أقل مما تستحق.

قدرك أن تُصدم مرة، وتُخذل مرة، وتكتشف فجأة أن الطريق الذي مشيته معهم كنت تمشيه وحدك.

قدرك أن تميز بين من كان معك يوم الضحك، ومن بقي معك يوم كان صمتك يقول أكثر مما تستطيع الحروف قوله.

قدرك أن تفهم أن رفيق الدرب الحقيقي ليس من يشبهك، بل من لا يتخلى عنك حين تختلف معه.

 

قدرك مع العمل… أن تبذل جهدًا لا يراه أحد، وأن تعمل بإخلاص لا يقدّره أحد، وأن تتجاهل مرارة الظلم لأنك تعلم أنَّ الرزق بيد الله لا بيد أحد.

قدرك أن تُهمَّش، أن تُنتقد، أن يُتجاهل تعبك، ثم تستيقظ كل صباح وتواصل لأنَّ عندك يقين لا يهزه أحد: أن ما عند الله لا يضيعه البشر.

قدرك أن تكون الضمير الحيّ في مكان ينام فيه كثيرون، وأن يبقى قلبك صافيًا رغم كل ما حولك.

قدرك مع الحب… أن تحب بقلب صادق، وأن تمنح من روحك أكثر مما يرجع إليك.

قدرك أن تحب بقلب أقرب للبراءة، وأن تتألم حين يغادر من أحببت. قدرك أن تعيش الفراق كما يعيش البحر جفاف مده… ينتظر موجة تعيده للحياة. قدرك أن تفهم أخيرًا أن الفراق ليس نهاية، بل بداية لقلب أقوى، أكثر فهمًا، أكثر نضجًا، وأكثر حكمة. قدرك أن تتذوق جمال الحب في الصمت، وفي الابتسامة التي تترك أثرها في قلبك طوال العمر.

قدرك مع الوحدة… أن تحمل كلامًا كثيرًا لا يسمعه أحد، ووجعًا كبيرًا لا يراه أحد. قدرك أن تبتسم وأنت منهك، وأن تقول "أنا بخير" وأنت تحتاج إلى صدر يشبه صدر أمك. قدرك أن تجد في وحدتك مساحة تسمع فيها قلبك بوضوح، وأن ينمو السلام الداخلي في قلبك حين تتقبل نفسك كما هي.

قدرك مع الخيبات… أن تخسر مالًا او جهدا أعطيته بثقة، وتكتشف أن الثقة وحدها لا تحميك. أن تستثمر في قلوب لا تستحقك، وفي وعود لا تُنفَّذ. قدرك أن تتلقى الطعنات من حيث أعطيت، أن ينكسر شيء فيك، ولكن لا ينتهي. قدرك أن تتألم، ثم تقف، ثم تقول بابتسامة الرجل الذي يعرف نفسه:

"لن أُكسر… مهما حدث".

قدرك مع الأحلام… أن تبقى واقفًا، حتى حين يريد العالم كله أن يجعلك تركع. أن تُطارِد ما تستحقه، حتى لو تأخر ألف مرة.

أن تؤمن أن النجاح ليس حظًا بل نفسًا طويلًا لا يملّ. قدرك أن تحب الحياة رغم الخيبات، وأن تواصل في مستقبلك رغم كل العقبات، وأن تزرع الخير حيثما كنت.

وأخيرًا قدرك مع الله… هو أجمل الأقدار كلها. قدرك أن تفهم أن كل سقوط كان حماية، وكل تأخير كان لطفًا، وكل وجع كان تربية للروح. قدرك أن تثق، أن تقول في قلبك: "لعلّ ما يأتي أجمل"، وأن تؤمن أن الله لا يكتب شيئًا إلا وفيه مخرج، ولو بعد حين. قدرك أن ترى الجمال في كل لحظة صعبة، وأن تؤمن بأن الله أرحم من كل البشر، وأن رحمتك لن تضيع مهما طال الليل.

وحين وقف ليغادر، نظرت إليه أخته بعين امرأة تعرف أن قلبه أكبر من كل ما مر به. اقترب منها، قبّل رأسها كما يفعل منذ الطفولة، وقال بصوت دافئ:

"إلى اللقاء…"

فابتسمت بثقة وقالت:

"في أمان الله".

الأكثر قراءة

z