بعد مثقف السوق.. هذا هو مثقف الزاوية!

 

 

 

أحمد الفقيه العجيلي

 

 

بعد أن تناولنا في مقال سابق بجريدة الرؤية نموذج "مثقف السوق"، الذي يقايض وعيه بالشهرة والرواج، نتوقف اليوم عند نموذج آخر لا يقل خطرًا على الوعي الجمعي، وهو ما يمكن تسميته بـ"مثقف الزاوية".

هذا المثقف يختار أن يرى العالم من زاوية واحدة، ثم يصرّ على أن الحقيقة لا تُرى إلا من خلالها.

فإذا تحدث عن أزمات الأمة أرجعها إلى مؤامرة غربية، وكأنَّ المسلمين لا دور لهم في ما آلت إليه أحوالهم.

وإذا ناقش التخلف حمّل التراث وحده المسؤولية، وكأن كل ما في التاريخ ظلام وجهل.

هو مثقف لا يرى إلا نصف المشهد، ثم يبني عليه أحكامًا كاملة. يتحدث بثقة من يملك المفاتيح، بينما هو في الحقيقة محاصر في زاويته، لا يجرؤ على النظر من خارجها. يعيش داخل دائرة فكرية مغلقة، يرى من خلالها أن كل العلل الخارجية كافية لتفسير التراجع الحضاري، دون أن يلتفت إلى الخلل الذاتي في بنية التفكير، والتعليم، والإنتاج، والضمير الجمعي للأمة.

يريح نفسه بتفسير مريح: "الغرب لا يريد لنا النهوض"، لكنه لا يسأل: وماذا فعلنا نحن لننهض؟ يبرر كل تقصير بالاستعمار أو التبعية، لكنه يغفل أن التبعية لا تدوم إلا حين تُقبل داخليًا وتُغذّى بالكسل واللامسؤولية.

مثقف الزاوية.. لا يرى إلا ما أمامه، هو المثقف الذي حبس نفسه في زاوية واحدة من الرؤية، وجعلها مقياسًا لكل شيء. ويكتفي بما يراه من داخلها، ويظن أن ما لا يدخل في نطاق نظره لا وجود له.

لا يتحرك مع تغيّر المعطيات، ولا يسعى إلى فهم تعدد الزوايا، بل يبقى أسير رأيه الأول، يتعامل معه كيقينٍ نهائي لا يحتمل المراجعة.

وإن كان ضد فكرةٍ أو جماعةٍ أو توجهٍ ما، ظلّ على موقفه مهما تغيّر الواقع، لأن موقفه لم يعد نابعًا من تحليل، بل من هوى قديم أو خصومةٍ متجذّرة.

هو يرى العالم بلونين لا ثالث لهما: معه أو ضده، صواب أو خطأ، ولا يعترف بالمناطق الرمادية التي يسكنها البشر في اختلافهم وتطورهم، ويتحدث بلغة الجزم لا الاحتمال، بلغة الإدانة لا الفهم، فيغيب عنه التمييز بين الرأي والموقف، وبين الخلاف والخصومة.

مشكلته ليست في نقص المعرفة، بل في ضيق الأفق؛ إذ يظن أن اتساع الرؤية ضعفٌ في المبدأ، وأن الاعتراف بتعدد الحقيقة نوعٌ من التنازل. وحين تضيق الزوايا، تضيق معها العقول، فيتحول الفكر من وسيلة للفهم إلى أداةٍ للدفاع عن الذات، ويغدو الحوار مع مثقف الزاوية طريقًا لا يؤدي إلا إلى الجدار.

وفي الجهة المقابلة، هناك مثقف زاوية آخر لا يقل ضيقًا عن الأول، يحمّل التراث الإسلامي كل أزمات الحاضر، ويصوّر الدين عائقًا أمام التطور. هو الآخر يرى من زاويته ما يشاء، ويتغافل عن أن النهضة الأوروبية نفسها وُلدت من صراع مع التخلف الداخلي لا من كرهٍ للدين في ذاته، وأن الحضارة الإسلامية حين ازدهرت كانت دافعًا للعلم والعقل لا عائقًا لهما.

وجوهر المشكلة أن مثقف الزاوية لا يبحث عن الحقيقة، بل عن الانتصار لرأيه. يتعامل مع الواقع بمنطق الاصطفاف لا بمنهج الفهم، ومع التاريخ بمنطق الانتقاء لا بمنهج القراءة. إنه لا يريد أن يرى الأمة كما هي، بل كما تخدم زاويته. يُسقط التحليل الموضوعي لصالح الخطاب العاطفي، فيتحول من مثقف إلى مروّج لفكرة، ومن ناقد إلى داعية لموقف. ولأن وعيه محكوم بعاطفة المظلومية أو عقدة النقص، فإن رؤيته تظل منقوصة في الحالتين.

فلا هو قادر على محاسبة الذات بصدق، ولا هو مؤهل لمواجهة الآخر بوعي.

ومع صعود وسائل التواصل الاجتماعي تضاعفت أزمة “مثقف الزاوية”، إذ أصبحت المنصات نفسها قائمة على منطق التفاعل لا منطق المعرفة.

فصار بعض المثقفين يصنعون صراعًا مفتعلًا، ويُحيون معارك وهمية، لا غرض لها سوى زيادة المشاهدات وتكثير المتابعين. لم يعد الهدف الوصول إلى الحقيقة، بل صناعة جدل يضمن الانتشار.

وفي الوقت نفسه، لا يمكن إنكار أن هذه المنصات أتاحت حرية لم تكن متاحة في وسائل يتحكم بها النفوذ والسلطة، وفتحت بابًا مهمًا للتواصل المباشر مع المجتمع، لكنها — مثل أي أداة — تُظهر أجمل ما في الفكر وأسوأ ما فيه، وتضخم حضور المثقف الذي يكرر صوته أكثر من المثقف الذي يعمّق رؤيته. وهكذا أصبح مثقف الزاوية يجد في هذه المساحات بيئة خصبة يعيد فيها إنتاج رؤيته الأحادية، ويتحول الجدل إلى مادة ترفيه لا إلى مسار وعي.

الخروج من الزاوية لا يعني التخلّي عن الموقف، بل التحرّر من أحاديته.

أن نعترف بأن للأمة أعداءً يتربصون بها، نعم، ولكن علينا قبل ذلك أن نُصلح الداخل وننظف العتبة قبل أن نلوم المارّة. وأن ندرك أن للتراث مكانته وفضله، نعم، لكن ليس كل ما ورثناه صالحًا للبقاء دون مراجعة؛ فالنقد البنّاء لا يهدم الجسد، بل يعالجه.

إن "مثقف الزاوية" ليس شخصًا بعينه، بل حالة عقلية تُصيب من يظن أنه بلغ الحقيقة المطلقة. ومهما تبدلت الشعارات، فإن الفكر الأحادي يظل خطرًا على الوعي، لأنه يختزل الأمة في رأي، والإنسان في اتجاه، والحقيقة في زاوية. وما لم يتسع نظرنا للمشهد كله، سنبقى ندور في الزاوية ذاتها، نلوم الآخرين، ونتهرب من مرآتنا.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z