حين يُروَّض الأسد ويهرب الثعلب

 

 

د. هبة محمد العطار

 

في عالمٍ يُصفّق للقوة ويُصفّي حساباته بالعنف، يمرّ الثعلب خفيفًا، لا يُصفّق له أحد، لكنه لا يُؤسر أبدًا. لم يُولد ليكون ملك الغابة؛ بل ليعرف طريق الخروج منها. أما الأسد، ذاك الرمز الأبدي للهيبة، فيقف شامخًا داخل قفصٍ مُذهَّب، يزأر كما أُمر، ويهدأ كما يُطلب.

المفارقة لا تكمن في القوة؛ بل في المصير؛ فالحياة لا تختبر حجم المخالب؛ بل قدرة العقل على النجاة. الثعلب لا يحتاج إلى تصفيق، ولا إلى لقبٍ يعلّقه على كتفه، يكفيه أن يظلّ حرًّا، لا يُروَّض ولا يُستَعرض. بينما الأسد رغم جبروته صار أسيرَ مشهدٍ صنعه الإنسان ليُرضي غروره.

القوة التي تُرى، تُراقَب، والذكاء الذي يُخفى، ينجو. في النهاية، لا يعيش الأقوى؛ بل الأوعى، لأن العالم لا يكافئ الصوت الأعلى؛ بل الخطوة الأذكى. كم من أسدٍ فقد عرشه وهو يحميه، وكم من ثعلبٍ بنى مملكته من الظِلال؟ الثعلب لا يخوض المعارك إلا حين يعرف نتيجتها، ولا يركض وراء الضوء لأنه يدرك أن الضوء يفضح من يقف تحته. يعرف أن القوة لا تُقاس بالصوت؛ بل بالقدرة على الصمت حين يعلو الصخب، ولهذا يظلّ خارج المشهد، يراقب، يفهم، ثم ينسحب في اللحظة التي يندفع فيها الآخرون.

ربما لهذا لم نرَ ثعلبًا في السيرك، لأن الحرية لا تُروض، ولا تُعلَّم كيف تؤدي دورًا. الثعلب لا يصلح للعرض، لأنه لا ينتمي للجمهور. هو يعرف أن الجمهور نفسه محبوس في قفصٍ من العادة، يصفّق لكل ما يُقدَّم له، دون أن يسأل مَن يُمسك بالسوط في النهاية. الأسد رمز السلطة التي تُبهِر لكنها تُستَخدم، والثعلب رمز العقل الذي لا يُبهر أحدًا لكنه يختار طريقه، وتلك هي المفارقة التي لا تنتهي، إن من يملك القوة يُستَغل، ومن يملك الذكاء ينجو. إنها لعبة البقاء التي لا تُدار بالعضلات؛ بل بالبصيرة.

وأخطر ما في المشهد ليس القفص ولا ما بداخله؛ بل مَن يقف خارجه وهو يُصفِّق؛ فالعالم لم يعد بحاجةٍ إلى قيدٍ حديدي ليكبح حرية الكائنات، يكفيه أن يصنع وهمًا من الضوء يجعل الأسر يبدو مجدًا، والطاعة تبدو نجاحًا. لقد تحوّل القيد من حديدٍ إلى معنى، ومن سوطٍ إلى إعجاب. فكم من أسدٍ ظنّ أن الجماهير تحبه، ولم يدرك أن التصفيق هو طريقة العالم في إسكاته. وحين يعتاد الكائن أن يُقاس صوته بعدد من يسمعه، يفقد قدرته على الإصغاء لنفسه، الثعلب في المقابل، يدرك أن المعركة الكبرى ليست مع الآخرين؛ بل مع الصورة التي يريدون أن يكونها. هو لا يسعى لأن يُفهم؛ بل لأن يبقى متسقًا مع حدسه. إنه يعرف أن الحرية لا تُمنح؛ بل تُمارس في صمت، وأن أعظم أشكال القوة هي أن ترفض اللعبة كلها. لهذا لا يظهر كثيرًا، ولا يشرح نفسه، لأن من يشرح كثيرًا يُفقد سره، ومن يُظهر كل أوراقه يصبح سهل القراءة.

ولعل الفرق الجوهري بين الأسد والثعلب ليس في الطبيعة؛ بل في الوعي؛ فالأول يثق بعينيه، والثاني يثق بعقله. الأول يبحث عن الهيبة، والثاني يبحث عن المسافة التي تحميه منها. ومن يدرك المسافة بين الضوء والاحتراق، يختار الظِلّ عن وعي، لا عن خوف.

في المجتمعات الحديثة، تغيّر شكل الغابة، لكن اللعبة لم تتغير. الأسود اليوم لا تزأر في الغابات؛ بل على الشاشات، تُعيد إنتاج الصورة نفسها بأشكالٍ أكثر لمعانًا. يعيشون تحت الضوء، يتغذّون على التصفيق، ويظنون أن السيطرة معنى القوة. أما الثعالب، فقد لبسوا وجوهًا عادية، يسيرون بين الناس دون ألقاب، يزرعون أفكارهم في العقول بهدوء، ويصنعون من الصمت سلطةً لا تُرى. صار العالم يقدّر من يُرى أكثر ممن يفهم، ويُكافئ من يتكلّم أكثر ممن يُفكّر، لكن التوازن الحقيقي لم يختفِ؛ بل اختبأ. فالذين يديرون العالم حقًا لا يقفون على المنصّة؛ بل خلفها، يكتبون النصّ ويختارون اللحظة التي تُرفع فيها الستارة وتُغلق. هم الثعالب الذين لم يدخلوا السيرك، لأنهم ببساطة لم يُخدعوا ببريقه.

حين يُتقن الثعلب فنَّ الغياب، يعيش كما يشاء، وحين ينسى الأسد معنى الغابة، يتحوّل من ملكٍ إلى مُؤدٍّ في عرضٍ لا ينتهي. وهكذا تظل الحياة تكرّر دروسها في صمت: ليس كل من يزأر حرًّا، ولا كل من يصمت ضعيفًا. في النهاية، لا يهم من يُصفّق له الناس؛ بل من يخرج من القفص دون أن يراه أحد؛ فالقوة أن تُمسك بخيوطك دون أن تُظهرها، وأن تعرف متى تصمت لتسمع، ومتى تغيب لتبقى!

الأكثر قراءة

z